القسم الثالث : ويستحقر غيره ، فتأبى نفسه عن الانقياد لهم ، وتدعوه إلى الترفع عليهم فيزدريهم ، ويستصغرهم ويأنف عن مساواتهم ، وهذا وإن كان دون الأول والثاني فهو أيضا عظيم من وجهين : أحدهما : أن الكبر والعز والعظمة والعلاء لا يليق إلا بالملك القادر فأما العبد المملوك الضعيف العاجز الذي لا يقدر على شيء فمن أين يليق بحاله الكبر ؟! فمهما تكبر العبد فقد نازع الله تعالى في صفة لا تليق إلا بجلاله ومثاله : أن يأخذ الغلام قلنسوة الملك فيضعها على رأسه ، ويجلس على سريره فما أعظم استحقاقه للمقت وما أعظم تهدفه للخزي والنكال وما أشد استجراءه على مولاه ! وما أقبح ما تعاطاه ! وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى العظمة إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني فيهما قصمته أي إنه خاص صفتي ، ولا يليق إلا بي ، والمنازع فيه منازع في صفة من صفاتي وإذا كان التكبر على العباد ، وذلك بأن يستعظم نفسه إذ الذي يسترذل خواص غلمان الملك ويستخدمهم ويترفع عليهم ويستأثر بما حق الملك أن يستأثر به منهم فهو منازع له في بعض أمره ، وإن لم يبلغ درجته درجة من أراد الجلوس على سريره والاستبداد بملكه فالخلق كلهم عباد الله ، وله العظمة الكبرياء عليهم فمن تكبر على عبد من عباد الله فقد نازع الله في حقه . الكبر على عباده لا يليق إلا به فمن تكبر على عباده فقد جنى عليه ؛
نعم ، الفرق بين هذه المنازعة وبين منازعة نمروذ وفرعون هو الفرق بين منازعة الملك في استصغار بعض عبيده واستخدامهم وبين منازعته في أصل الملك .
الوجه الثاني الذي تعظم به رذيلة الكبر : أنه يدعو إلى مخالفة الله تعالى في أوامره لأن المتكبر إذا سمع الحق من عبد من عباد الله استنكف عن قبوله وتشمر لجحده ولذلك ترى المناظرين في مسائل الدين يزعمون أنهم يتباحثون عن أسرار الدين ، ثم إنهم يتجاحدون تجاحد المتكبرين ، ومهما اتضح الحق على لسان واحد منهم أنف الآخر من قبوله ، وتشمر لجحده ، واحتال لدفعه بما يقدر عليه من التلبيس وذلك من أخلاق الكافرين والمنافقين ؛ إذ وصفهم الله تعالى فقال : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . فكل من يناظر للغلبة والإفحام ، لا ليغتنم الحق إذا ظفر به ، فقد شاركهم في هذا الخلق . وكذلك يحمل ذلك على الأنفة من قبول الوعظ ، كما قال تعالى : وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قرأها ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون قام رجل يأمر بالمعروف فقتل ، فقام آخر فقال يقتلون : الذين يأمرون بالقسط من الناس ؟! فقتل المتكبر الذي خالفه ، والذي أمره كبرا .
وقال كفى بالرجل إثما إذا قيل له : اتق الله قال : عليك نفسك « وقال صلى الله عليه وسلم لرجل : كل بيمينك ، قال : لا أستطيع ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا ، فما منعه إلا كبره ، قال : فما رفعها بعد ذلك » أي : اعتلت يده . ابن مسعود