الأمر الثاني أن : وأنه إذا تكبر صار ممقوتا عند الله بغيضا وقد أحب الله منه أن يتواضع وقال له : إن لك عندي قدرا ما لم تر لنفسك قدرا ، فإن رأيت لنفسك قدرا فلا قدر لك عندي فلا . بد وأن يكلف نفسه ما يحبه مولاه منه . العالم يعرف أن الكبر لا يليق إلا بالله عز وجل وحده
وهذا يزيل التكبر عن قلبه ، وإن كان يستيقن أنه لا ذنب له مثلا أو تصور ذلك .
وبهذا زال التكبر عن الأنبياء عليهم السلام إذ علموا أن وقد أمرهم الله بأن يصغروا أنفسهم حتى يعظم عند الله محلهم ، فهذا أيضا مما يبعثه على التواضع لا محالة . من نازع الله تعالى في رداء الكبرياء قصمه
فإن قلت : فكيف يتواضع للفاسق المتظاهر بالفسق وللمبتدع وكيف يرى نفسه دونهم وهو عالم عابد وكيف يجهل فضل العلم والعبادة عند الله تعالى ، وكيف يغنيه أن يخطر بباله خطر العلم وهو يعلم أن خطر الفاسق والمبتدع أكثر ؟! فاعلم أن ذلك إنما يمكن بالتفكر في خطر الخاتمة ، بل لو نظر إلى كافر لم يمكنه أن يتكبر عليه ؛ إذ يتصور أن يسلم الكافر ، فيختم له بالإيمان ، ويضل هذا العالم فيختم له بالكفر والكبير من هو كبير عند الله في الآخرة ، والكلب والخنزير أعلى رتبة ممن هو عند الله من أهل النار وهو لا يدري ذلك ، فكم من مسلم نظر إلى رضي الله عنه قبل إسلامه ، فاستحقره وازدراه لكفره ! وقد رزقه الله الإسلام وفاق جميع المسلمين إلا عمر وحده فالعواقب مطوية عن العباد ولا ينظر العاقل إلا إلى العاقبة ، وجميع الفضائل في الدنيا تراد للعاقبة . أبا بكر
فإذن : من حق العبد أن لا يتكبر على أحد بل إن نظر إلى جاهل قال : هذا عصى الله بجهل وأنا عصيته بعلم فهو ، أعذر مني .
وإن نظر إلى عالم قال : هذا قد علم ما لم أعلم فكيف أكون مثله ؟! وإن نظر إلى كبير هو أكبر منه سنا قال : هذا قد أطاع الله قبلي فكيف أكون مثله ؟! وإن نظر إلى صغير قال : إني عصيت الله قبله ، فكيف أكون مثله . وإن نظر إلى مبتدع أو كافر قال : ما يدريني لعله يختم له بالإسلام ويختم لي بما هو عليه الآن فليس دوام الهداية إلي كما لم يكن ابتداؤها إلي فبملاحظة الخاتمة يقدر على أن ينفي الكبر عن نفسه وكل ذلك بأن يعلم أن الكمال في سعادة الآخرة ، والقرب من الله ، لا فيما يظهر في الدنيا مما لا بقاء له ولعمري هذا الخطر مشترك بين المتكبر والمتكبر عليه ، ولكن حق على كل واحد أن يكون مصروف الهمة إلى نفسه ، مشغول القلب بخوفه لعاقبته ، لا أن يشتغل بخوف غيره ؛ فإن الشفيق بسوء الظن مولع وشفقة ، كل إنسان على نفسه .
فإذا حبس جماعة في جناية ووعدوا بأن تضرب رقابهم لم يتفرغوا لتكبر بعضهم على بعض ، وإن عمهم الخطر إذ شغل كل واحد نفسه عن الالتفات إلى هم غيره ، حتى كأن كل واحد هو وحده في مصيبته وخطره .
فإن قلت : فكيف أبغض المبتدع في الله وأبغض الفاسق ، وقد أمرت ببغضهما ، ثم مع ذلك أتواضع لهما ، والجمع بينهما متناقض ؟ فاعلم أن هذا أمر مشتبه ، يلتبس على أكثر الخلق ؛ إذ يمتزج غضبك لله في إنكار البدعة والفسق بكبر النفس والإدلال بالعلم والورع ، فكم من عابد جاهل وعالم مغرور إذا رأى فاسقا جلس بجنبه أزعجه من عنده وتنزه عنه بكبر باطن في نفسه ، وهو ظان أنه قد غضب لله كما وقع لعابد بني إسرائيل مع خليعهم وذلك لأن الكبر على المطيع ظاهر كونه شرا ، والحذر منه ممكن ، والكبر على الفاسق والمبتدع يشبه الغضب لله ، وهو خير ، فإن الغضبان أيضا يتكبر على من غضب عليه ، والمتكبر يغضب ، وأحدهما يثمر الآخر ويوجبه وهما ممتزجان ملتبسان ، لا يميز بينهما إلا الموفقون .
والذي يخلصك من هذا أن يكون الحاضر على قلبك عند مشاهدة المبتدع أو الفاسق ، أو عند أمرهما بالمعروف ونهيهما ، عن المنكر ثلاثة أمور .
أحدهما : التفاتك إلى ما سبق من ذنوبك وخطاياك ليصغر عند ذلك قدرك في عينك .
والثاني : أن تكون ملاحظتك لما أنت متميز به من العلم واعتقاد الحق والعمل الصالح من حيث إنها نعمة من الله تعالى عليك ، فله المنة فيه لا لك ، فترى ذلك منه ؛ حتى لا تعجب بنفسك وإذا لم تعجب لم تتكبر .
والثالث : ملاحظة إبهام عاقبتك وعاقبتك أنه ربما يختم لك بالسوء ، ويختم له بالحسنى ؛ حتى يشغلك الخوف عن التكبر عليه .
فإن قلت : فكيف أغضب مع هذه الأحوال ؟ فأقول تغضب : لمولاك وسيدك إذ أمرك أن تغضب له ، لا لنفسك ، وأنت في غضبك لا ترى نفسك ناجيا وصاحبك هالكا ، بل يكون خوفك على نفسك بما علم الله من خفايا ذنوبك أكثر من خوفك عليه مع الجهل بالخاتمة . وأعرفك ذلك بمثال لتعلم أنه ليس من ضرورة الغضب لله أن تتكبر على المغضوب عليه ، وترى قدرك فوق قدره ، فأقول : إذا كان للملك غلام وولد هو قرة عينه وقد وكل الغلام بالولد ليراقبه وأمره أن يضربه مهما أساء أدبه ، واشتغل بما لا يليق به ، ويغضب عليه .
فإن كان الغلام محبا مطيعا لمولاه فلا يجد بدا أن يغضب مهما رأى ولده قد أساء الأدب ، وإنما يغضب عليه لمولاه ولأنه أمره به ، ولأنه يريد التقرب بامتثال أمره إليه ، ولأنه جرى من ولده ما يكره مولاه ، فيضرب ولده ، ويغضب عليه من غير تكبر عليه ، بل هو متواضع له يرى قدره عند مولاه فوق قدر نفسه ؛ لأن الولد أعز لا محالة من الغلام .
فإذن : ليس من ضرورة الغضب التكبر وعدم التواضع ، فكذلك يمكنك أن تنظر إلى المبتدع والفاسق وتظن أنه ربما كان قدرهما في الآخرة عند الله أعظم ؛ لما سبق لهما من الحسنى في الأزل ، ولما سبق لك من سوء القضاء في الأزل ، وأنت غافل عنه ، ومع ذلك فتغضب بحكم الأمر ؛ محبة لمولاك ؛ إذ جرى ما يكرهه مع التواضع لمن يجوز أن يكون عنده أقرب منك في الآخرة .
فهكذا يكون بعض العلماء الأكياس فينضم إليه الخوف والتواضع .
وأما المغرور فإنه يتكبر ، ويرجو لنفسه أكثر مما يرجوه لغيره ، مع جهله بالعاقبة ، وذلك غاية الغرور .
فهذا سبيل التواضع لمن عصى الله أو اعتقد ، البدعة مع الغضب عليه ، ومجانبته بحكم الأمر .