وأما بيان وجوبها على الدوام وفي كل حال .
فهو أن كل بشر فلا يخلو عن معصية بجوارحه ; إذ لم يخل عنه الأنبياء كما ورد في القرآن والأخبار من خطايا الأنبياء وتوبتهم وبكائهم على خطاياهم فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب فإن خلا في بعض الأحوال عن الهم فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله فإن خلا عنه فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله ، وكل ذلك نقص وله أسباب ، وترك أسبابه بالتشاغل بأضدادها رجوع عن طريق إلى ضده ، والمراد بالتوبة الرجوع ولا يتصور الخلو في حق الآدمي عن هذا النقص ، وإنما يتفاوتون في المقادير ، فأما الأصل فلا بد منه ، ولهذا قال عليه السلام : الحديث ولذلك أكرمه الله تعالى بأن قال « إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وإذا كان هذا حاله فكيف حال غيره .
فإن قلت : لا يخفى أن ما يطرأ على القلب من الهموم والخواطر نقص وأن الكمال في الخلو عنه وأن القصور عن معرفة كنه جلال الله نقص وإنه ، كلما ازدادت المعرفة زاد الكمال ، وأن الانتقال إلى الكمال من أسباب النقصان رجوع ، والرجوع توبة ولكن هذه فضائل لا فرائض ، وقد أطلقت القول والتوبة عن هذه الأمور ليست بواجبة إذ إدراك الكمال غير واجب في الشرع ، فما المراد بقولك : التوبة واجبة في كل حال ? فاعلم أنه قد سبق أن الإنسان لا يخلو في مبدأ خلقته من اتباع الشهوات أصلا وليس معنى التوبة تركها فقط بل ; تمام التوبة بتدارك ما مضى وكل شهوة اتبعها الإنسان ارتفع منها ظلمة إلى قلبه كما يرتفع عن نفس الإنسان ظلمة إلى وجه المرآة الصقيلة فإن تراكمت ظلمة الشهوات صار رينا كما يصير بخار النفس في وجهه المرآة عند تراكمه خبثا كما قال تعالى كلا بوجوب التوبة في كل حال ، بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فإذا تراكم الرين صار طبعا فيطبع على قلبه كالخبث على وجه المرآة إذا تراكم وطال زمانه غاص في جرم الحديد وأفسده وصار لا يقبل الصقل بعده ، وصار كالمطبوع من الخبث ولا يكفي في تدارك اتباع الشهوات تركها في المستقبل بل لا بد من محو تلك الأريان التي انطبعت في القلب كما لا يكفي في ظهور الصور في المرآة قطع الأنفاس والبخارات المسودة لوجهها في المستقبل ، ما لم يشتغل بمحو ما انطبع فيها من الأريان وكما يرتفع إلى القلب ظلمة من المعاصي والشهوات فيرتفع ، إليه نور من الطاعات وترك الشهوات فتنمحي ، ظلمة المعصية بنور الطاعة ، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : . « أتبع السيئة الحسنة تمحها »