والمقصود إن إحداهما تكفير السيئات حتى يصير كمن لا ذنب له والثانية نيل الدرجات حتى يصير حبيبا للتوبة ثمرتين فبعضه محو لأصل الذنب بالكلية ، وبعضه تخفيف له ، ويتفاوت ذلك بتفاوت درجات التوبة ; فالاستغفار بالقلب ، والتدارك بالحسنات ، وإن خلا عن حل عقدة الإصرار من أوائل الدرجات ، فليس يخلو عن الفائدة أصلا ، فلا ينبغي أن تظن أن وجودها كعدمها ، بل عرف أهل المشاهدة وأرباب القلوب معرفة لا ريب فيها أن قول الله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره صدق ، وأنه لا تخلو ذرة من الخير عن أثر ، كما لا تخلو شعيرة تطرح في الميزان عن أثر ، ولو خلت الشعيرة الأولى عن أثر لكانت الثانية مثلها ، ولكان لا يرجح الميزان بأحمال الذرات ، وذلك بالضرورة محال ، بل ميزان الحسنات يرجح بذرات الخير إلى أن يثقل فترفع ، كفة السيئات ، فإياك أن تستصغر ذرات الطاعات فلا تأتيها وذرات المعاصي فلا تنفيها كالمرأة الخرقاء تكسل عن الغزل تعللا بأنها لا تقدر في كل ساعة إلا على خيط واحد ، وتقول : أي غني يحصل بخيط ، وما وقع ذلك في الثياب ولا تدري المعتوهة أن ثياب الدنيا اجتمعت خيطا خيطا ، وأن أجسام العالم مع اتساع أقطاره اجتمعت ذرة . فإذن وللتكفير أيضا درجات لا تضيع عند الله أصلا بل أقول التضرع والاستغفار بالقلب حسنة إذ حركة اللسان بها عن غفلة خير من حركة اللسان في تلك الساعة بغيبة مسلم ، أو فضول كلام ، بل هو خير من السكوت عنه فيظهر فضله بالإضافة إلى السكوت عنه ، وإنما يكون نقصانا بالإضافة إلى عمل القلب ; ولذلك قال بعضهم لشيخه أبي عثمان المغربي إن لساني في بعض الأحوال يجري بالذكر والقرآن ، وقلبي غافل فقال : اشكر الله إذ استعمل جارحة من جوارحك في الخير ، وعوده الذكر ، ولم يستعمله في الشر ، ولم يعوده الفضول ، وما ذكره حق فإن تعود الجوارح للخير حتى يصير لها ذلك كالطبع يدفع جملة من المعاصي ، فمن تعود لسانه الاستغفار إذا سمع من غيره كذبا ، سبق لسانه إلى ما تعود فقال : أستغفر الله ، ومن تعود الفضول سبق لسانه إلى قول : ما أحمقك ، وما أقبح كذبك ، ومن تعود الاستعاذة إذا حدث بظهور مبادئ الشر من شرير قال بحكم سبق اللسان : نعوذ بالله وإذا تعود الفضول قال : لعنه الله فيعصي في إحدى الكلمتين ، ويسلم في الأخرى ، وسلامته أثر اعتياد لسانه الخير ، وهو من جملة معاني قوله تعالى: الاستغفار باللسان أيضا حسنة ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين ، ومعاني قوله تعالى : وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فانظر كيف ضاعفها إذ جعل الاستغفار في الغفلة عادة اللسان حتى دفع بتلك العادة شر العصيان بالغيبة واللعن والفضول ، هذا تضعيف في الدنيا لأدنى الطاعات ، وتضعيف الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون فإياك وأن تلمح في الطاعات مجرد الآفات ، فتفتر رغبتك عن العبادات ، فإن هذه مكيدة روجها الشيطان بلعنته على المغرورين وخيل إليهم أنهم أرباب البصائر ، وأهل التفطن للخفايا والسرائر ، فأي خير في ذكرنا باللسان مع غفلة القلب فانقسم الخلق في هذه المكيدة إلى ثلاثة أقسام : ظالم لنفسه ، ومقتصد ، وسابق بالخيرات ; أما السابق فقال : صدقت يا ملعون ، ولكن هي كلمة حق أردت بها باطلا فلا جرم ، أعذبك مرتين ، وأرغم أنفك من وجهين فأضيف إلى حركة اللسان حركة القلب فكان كالذي داوى جرح الشيطان بنثر الملح عليه .