فقول القائل: إن حكم الوهم أو الخيال قد يناقض حكم العقل: إذا أراد به أن التصور المعين الذي في النفس لما هو محسوس، أو لما لم يحسه، كالعداوة والصداقة، قد يناقض العقل الذي حكمه كلي عام - كان هذا باطلا. تعليق بن تيمية على كلام ابن سينا في " الإشارات " عن الخيال والوهميات
وإن أراد به أن العقل يثبت أمورا قائمة بنفسها، تقوم بها معاني، وتصوره للمحسوسات ولما قام بها يناقض ذلك - كان هذا أيضا باطلا، فإنه لا منافاة بين هذا وهذا، وذلك لأن الكلام ليس في مناقضة تصور الجزئيات للكليات، بل في تناقض القضايا الكلية بالسلب والإيجاب.
[ ص: 39 ] وإذا أراد به أن ما سماه الوهم والخيال يحكم حكما كليا يناقض حكما كليا للعقل، وهذا هو مرادهم - كان هذا تناقضا منهم، وذلك أنهم قد فسروا حكم الوهم، المناقض للعقل عندهم، بأنه يقضي قضاء كليا يناقض القضاء الكلي المعلوم بالعقل، مثل أنه يقضي أنه ما من موجود إلا ويمكن الإشارة إليه، وما من موجودين إلا وأحدهما محايث للآخر أو مباين له، ويمنع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، وأمثال ذلك.
فيقال لهم: هذه قضايا كلية وأحكام عامة، وأنتم قلتم: إن الوهم هو الذي يدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحس، كإدراك الصداقة والعداوة إدراكا جزئيا يحكم به، كما يحكم الحس بما نشاهده.
وكذلك الخيال عندكم يحفظ ما يتصوره من المحسوسات الجزئية، فإذا كان الوهم والخيال إنما يدرك أمورا جزئية، بمنزلة الحس، وهذه القضايا التي تزعمون أنها تعارض حكم العقل قضايا كلية، علم بذلك أن هذه ليست من إدراك الوهم والخيال، كما أنها ليست من إدراك الحس، وإنما هي قضايا كلية عقلية، بمنزلة أمثالها من القضايا الكلية العقلية، وهذا لا محيد لهم عنه، وهذا بمنزلة الحكم بأن كل وهم وخيال فإنما يدرك أمورا جزئية.
[ ص: 40 ] فهذه القضية الكلية عقلية، وإن كانت حكما على الأمور الوهمية الخيالية. وكذلك إذا قلت: كل صداقة فإنها ضد العداوة، فهذا حكم بما في عقل كل الأفراد التي هي وهمية.