وأيضا فإنه ليس شيء من ذلك أزليا أبديا، بل يجب أن لا يعرف وجود بني آدم ولا غيرهم من الحيوانات، إلا إذا ثبت أن وجود ذلك لازم لوجود الأفلاك. فإذا كان لا يعلم إلا الأمور الكلية الأزلية الأبدية التي لا تقبل التغير، فيجب أن لا يعلم أحدا من الأنبياء والرسل، ولا شيئا مما أمروا به الناس،
ومعلوم أنهم ليس لهم دليل على قدم نوع من المركبات، لا الإنسان ولا غيره من الحيوانات، وإن اعتقدوا قدم الأفلاك فإن حدوث الحوادث السفلية هو عن حركات الأفلاك. والحركات متنوعة، وتحدث فيها أشكال غريبة، فيجوز أن يكون حدوث ما حدث من الأنواع بسبب بعض الأشكال التي حدثت، ولهذا يجوز عندهم تحول المعمور من الربع الشمالي إلى الجنوبي، وغير ذلك من التغيرات العظيمة، ويجب أن لا يكون له علم بالطوفانات العامة، كطوفان نوح وغيره؛ لأنه من هذا الباب، بل يجب أن لا يكون عالما بشيء من أحوال الأفلاك وغيرها، ما لم يثبت أن ذلك بعينه قديم أزلي.
وهم لا دليل لهم على قدم شيء من العالم، وإنما حججهم تدل [ ص: 195 ] على قدم نوع فعله، لا على قدم شيء بعينه من المفعولات، وقد قامت الأدلة على أن كل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن، وإن قيل: إنه لم يزل متكلما فاعلا.
وعلى هذا التقدير فلا يكون عالما بشيء من مخلوقاته؛ إذ كلها حادثة، وهم لا يعلمون شيئا من المحدثات، ويجب أن لا يكون عالما بما يتكلم به وما يفعله، مع قيام الدليل على أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، بل ولازم هذا القول أنه لم يفعل شيئا، فإنه لا يفعل إلا بمشيئته، ولا يشاء إلا مع علمه بما يشاؤه، فإذا قدر أنه لم يعلم الفعل المعين والمفعول المعين، لزم أنه لم يفعل شيئا، ولزم أن كل من فعل بقدرته ومشيئته كان أكمل منه؛ لأنه فعل بعلم وقدرة ومشيئة، وهذا في صريح العقل أكمل ممن لا يفعل شيئا، أو ممن يفعل بلا قدرة ولا مشيئة ولا علم.