ولقائل أن يقول: في إفساد هذا الوجه أيضا: قول القائل: "إنه محصور في الوجود" أيريد به أن هناك سورا موجودا حصر ما يتناهى أو ما لا يتناهى بين طرفيه، أم يريد به أنه موصوف بكونه موجودا؟ فإن [ ص: 51 ] أراد الأول فهو باطل، فإنه ليس للموجودات شيء خارج عن الموجودات يحصرها. سواء قيل: إنها متناهية أو غير متناهية، وإن قيل: إن كل واحد مما لا يتناهى من الموجودات هو موجود، فهذا حق.
فإذا سمى المسمي هذا حصرا كان هذا إطلاقا لفظيا، وكان قوله حينئذ: وهذا محل النزاع، فقد غير العبارة، وصادر على المطلوب. ثم ما لا يتناهى في المستقبل موجود باتفاق أهل الملل وعامة الفلاسفة، ولم ينازع في ذلك إلا من شذ "ما لا يتناهى لا يكون محصورا" بمنزلة قوله: "لا يكون موجودا" كالجهم وأبي الهذيل ونحوهما ممن هو مسبوق بإجماع المسلمين، محجوج بالكتاب والسنة، مخصوم بالأدلة العقلية مع مخالفة جماهير العقلاء من الأولين والآخرين، وهو مع هذا محصور بالوجود، كما أن ما لا يتناهى في الماضي محصور بالوجود، لكنهم يفرقون بأن الماضي دخل في الوجود، بخلاف المستقبل، ومنازعوهم يقولون: الماضي دخل، ثم خرج، فصارا جميعا معدومين، والمستقبل لم يدخل في الوجود، وهو تفريق صوري، حقيقته أن الماضي كان وحصل، والمستقبل لم يحصل بعد.
فيقال لهم: ولم قلتم: إن كل ما حصل وكان يمتنع أن يكون دائما لم يزل؟ وهو وإن كان متناهيا من الجانب الذي يلينا، فالمستقبل أيضا متناه في هذا الجانب، وإنما الكلام في الطرفين الآخرين.
وأيضا فالحوادث الماضية عدمت بعد وجودها، فهي الآن معدومة، كما أن الحوادث المستقبلة الآن معدومة، فلا هذا موجود، [ ص: 52 ] ولا هذا موجود الآن، وكلاهما له وجود في غير هذا الوقت، ذاك في الماضي، وهذا في المستقبل، وكون الشيء ماضيا ومستقبلا أمر إضافي بالنسبة إلى ما يقدر متأخرا عن الماضي ومتقدما على المستقبل، وإلا فكل ماض قد كان مستقبلا، وكل مستقبل سيكون ماضيا، كما أن كل حاضر قد كان مستقبلا، وسيصير ماضيا.