قال وحدثني البخاري: أبو جعفر سمعت وذكر الحسن بن موسى الأشيب الجهمية فنال منهم، ثم قال: أدخل رأس من رؤساء الزنادقة يقال له شمغلة على المهدي / فقال: دلني على أصحابك، فقال: أصحابي أكثر من ذلك، [ ص: 367 ] فقال: دلني عليهم. فقال: صنفان ممن ينتحل القبلة الجهمية والقدرية. والجهمي إذا غلا قال: ليس ثم شيء، وأشار إلى السماء، والقدري إذا غلا قال: هم اثنان خالق خير وخالق شر، فضرب عنقه وصلبه". الأشيب
وهذان الصنفان جمعهما المعتزلة، وفيهم يقول ابن المبارك:
ولا أقول بقول الجهم إن له قولا يضارع قول الشرك أحيانا ولا أقول تخلى من بريته
رب العباد وولى الأمر شيطانا
وروى عن يحيى بن يوسف الزمي قال: كنا عند [ ص: 368 ] فجاء رجل فقال :يا عبد الله بن إدريس أبا محمد، قال: أمن اليهود؟ قال: لا، قال: أمن النصارى؟، قال: لا، قال: فمن المجوس؟ قال [لا]، قال فممن؟ قال: من أهل التوحيد، قال: ليس هؤلاء من أهل التوحيد، هؤلاء من الزنادقة. من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن الله مخلوق. وهذا أصل الزندقة، قال: وقال ما تقول في قوم يقولون القرآن مخلوق؟ وهب بن جرير: الجهمية زنادقة، إنما يريدون أنه ليس على [ ص: 369 ] العرش استوى، قال وكان البخاري: يسميهم إسماعيل بن أبي أويس زنادقة العراق، وقيل له: سمعت أحدا يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: هؤلاء الزنادقة.
وقال "نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت قوما أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم"، قال: "وقال البخاري: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام عبد الله بن المبارك: الجهمية".
[ ص: 370 ] وقال في وصف قول الإمام أحمد الجهمية ما قدمناه حيث قال: إنه بلغه أن لقي أناسا من المشركين يقال لهم السمنية. فعرفوا الجهم فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم نعم، فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا، قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا، قالوا: فهل شممت له رائحة؟ قال: لا، قالوا: فوجدت له حسا؟ قال: لا، قالوا: فوجدت له مجسا؟ قال: لا، قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم: فلم يدر من يعبد أربعين يوما ثم إنه [ ص: 371 ] استدرك حجة مثل حجج الزنادقة النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في الجهم عيسى هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث شيئا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما يشاء، وينهى عما يشاء، وهو روح غائب عن الأبصار، فاستدرك حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحا؟ قال نعم، قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا، قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا، قال: فوجدت له حسا؟ قال: لا، قال: فكذلك الله لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان، ووجدت ثلاث آيات من المتشابه في القرآن قوله: جهم ليس كمثله شيء [الشورى: 11] وهو الله في السماوات وفي الأرض [الأنعام: 3] لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار [الأنعام: 103]. / فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات، وتأول القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرا، وكان من المشبهة فأضل بكلمه بشرا كثيرا، واتبعه على قوله رجال من أصحاب وأصحاب أبي حنيفة عمرو بن عبيد [ ص: 372 ] بالبصرة، ووضع دين الجهمية؛ فإذا سألهم الناس عن قول الله: ليس كمثله شيء [يقولون: ليس كمثله شيء ] من الأشياء، وهو تحت الأرض السابعة كما هو على العرش، لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، ولم يتكلم ولا يكلم، ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يوصف، ولا يعرف بصفة ولا بفعل، ولا له غاية ولا له منتهى، ولا يدرك بعقل، وهو وجه كله وهو علم كله، وهو سمع كله، وهو بصر كله، وهو نور كله، وهو قدرة كله، [ولا يكون فيه شيئان] ولا يوصف بوصفين مختلفين، ولا له أعلى ولا أسفل، ولا نواحي ولا جوانب، ولا يمين ولا شمال، ولا هو ثقيل ولا خفيف، ولا له لون، ولا له جسم، [وليس هو بمعلوم ولا معقول]، وكلما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه، فقلنا: هو شيء؟ فقالوا: هو [ ص: 373 ] لا كالأشياء، فقلنا: إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء. فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا، ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية، فإذا قيل لهم: من تعبدون؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، فقلنا: هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة، قالوا: نعم، فقلنا قد عرف المسلمون أنكم تؤمنون بشيء إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون، فقلنا لهم: هذا الذي يدبر الأمر هو كلم موسى. قالوا: لم يتكلم ولا يكلم؛ لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة. والجوارح عن الله منتفية، فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله، ولا يعلم أنهم إنما يعود قولهم إلى فرية وضلالة وكفر".
[ ص: 374 ] وروى عن عبد الله بن أحمد ابن إبراهيم بن طهمان قال: "الجهمية كفار"، وعن عن الأصمعي وعن المعتمر بن سليمان سليمان التيمي عن أبيه قال: "ليس قوم أشد [ ص: 375 ] بغضا للإسلام من الجهمية"، وعن قال: سلام بن أبي مطيع "الجهمية كفار"، وعن "وذكر الجهمية فقال: زنادقة"، وفي رواية أخرى رواها يزيد بن هارون [ ص: 376 ] عنه وذكر المروذي الجهمية فقال: كفار لا يعبدون شيئا وروى عن المروذي قال: سلام بن أبي مطيع الجهمية كفار لا يصلى خلفهم، وعن محمد بن يحيى بن سعيد القطان قال: كان أبي يحيى يقولان: "الجهمية تدور على أن تقول ليس في السماء شيء". وروى وعبد الرحمن يعني ابن مهدي سليمان بن [ ص: 377 ] حرب عن قال: حماد بن زيد "الجهمية تحاول على أن ليس في السماء شيء"، ورواه [عنه] ولفظه: "إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء"، وروى عبد الله ابن الإمام أحمد عن الخلال أنه قال: وكيع بن الجراح جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، كل صاحب هوى يعبد الله ويعرفه إلا الجهمية فإنهم لا يعرفونه، القرآن [ ص: 378 ] كلام الله أنزله بشر وأصحابه، وعن شبابة بن سوار قال: اجتمع رأيي ورأي جماعة من الفقهاء وأبي النضر هاشم بن القاسم على أن كافر جاحد يستتاب، فإن تاب وإلا ضرب عنقه، وعن المريسي قال: "هذا الذي يقول في القرآن -يعني ابن عيينة - ينبغي أن [ ص: 379 ] يصلب"، وعن المريسي أنه قال: "كلام عباد بن العوام يزعم أنه ليس بشيء يعني أن الله ليس بشيء"، وعنه قال: كلمت بشر المريسي وأصحاب بشرا بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن ليس في السماء شيء.
وروي عن إنما تحاول أبي بكر بن عياش: الجهمية أن ليس في السماء شيء، وعن أنه ذاكر الميموني أمر أبا عبد الله [ ص: 380 ] أحمد بن حنبل الجهمية وما يتكلمون به فقال: "في كلامهم كلام الزنادقة، يدورون على التعطيل، ليس يثبتون شيئا، وهكذا الزنادقة" وقال لي أبو عبد الله: "بلغني أنهم يقولون شيئا هم يدعونه، وينقصون على المكان ويقولون هو الأشياء وليس بالشيء في الشيء. قال لي: فهو قد ترك قوله الأول وأقبل يتعجب إلي".
وعن قال: "ما أحد أضر على الإسلام من أحمد بن حنبل الجهمية، ما يريدون إلا إبطال القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا كثير في كلام السلف والأئمة وسائر العلماء لا يحصيه إلا الله، يصفون فيه الجهمية بالزندقة التي هي النفاق وبالتعطيل وبالجحود للقرآن والحديث، وبأنهم إنما يقرون في الظاهر بالإسلام والقرآن خوفا من السيف، إذا كان ذلك - وهم أول من أحدث في الإسلام القول بأن الله تعالى ليس بجسم، وأنه إذا كان ليس بجسم، فإن ذلك يستلزم نفي علوه على العرش، ونفي صفاته وغير ذلك - علم أن ما في هؤلاء من المنافقة والتقية وخوف السيف من أهل الإيمان أعظم مما ذكر [و]هـ أولئك.
[ ص: 381 ]