الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وإذا كان الأمر كذلك في المخلوقات مع تماثلها في الجملة، وأنه ما من شيء منها إلا وقد خلق الله له زوجا، كما قال تعالى: ومن كل شيء خلقنا زوجين [الذاريات: 49] فكيف بخالق الموجودات، وبارئ الكائنات رب الأرض والسموات، وصانع كل ما يعلم ويشهد، خالق كل شيء، ورب كل شيء ومليكه، مع العلم بأن هذه العبارات العامة لم تدخل فيها نفسه المقدسة بما لها من الأسماء والصفات.

وهو سبحانه لا يسمى من الأسماء ولا يوصف من الصفات إلا بما يخصه ويمنع مشاركة غيره له، وإذا أضيف ما يشبه ذلك الاسم أو الصفة إلى غيره كان أيضا مقيدا بما يوجب اختصاص ذلك الغير به، ويمنع أن يكون لله شريك في شيء من أسمائه وصفاته، لكن إذا قدر تجرد ذلك الاسم عن المخصصات، وهذا تقدير لا وجود له في الخارج كان مشتركا بين المسميات، كما أنه إذا قدر صفة مشتركة بين الموصوفات وهو المعنى العام، وهذا تقدير لا وجود له في الخارج، كانت تلك الصفة وذلك المعنى العام مشتركا بين الموصوفات والموجودات، لكن هذا المطلق [ ص: 438 ] المشترك من الأسماء والمعاني والصفات إنما ثبوتها في الأذهان لا في الأعيان، وقد قدمنا أن هذا التقدير إنما يفعل للحاجة إلى زوال الاشتراك الذي في نفوس بني آدم الذين وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون فيقدر تقديرا ليبين بتقديره ما فيه من افتقاره أو ما فيه من علو الله على غيره، وأن له المثل الأعلى، وأنه أحق بكل ثناء وأبعد عن كل نقص، كما يقدر وجود مثل للباري أو شريك في الملك ونحو ذلك ليس بتقديره امتناعه وتنزه الباري عنه، إذ كل ما ينزه عنه الباري- تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا- من الشركاء والأولاد والأنداد والعيوب والنقائص وسائر ما يصفه به المبطلون الذين سبحان ربك رب العزة عما يصفون فلابد من تصوره وتقديره في النفس لينفى عن الرب وينزه عنه، إذ حكم الذهن بنفي الشيء وإثباته لا يكون إلا بعد تصوره؛ فلا يمكن نفي شيء وتنزيه الرب عنه إن لم يكن معلوما متصورا في الذهن وهو لا حقيقة له في الخارج، فيكون مقدرا تقديرا بطريق المقايسة والمشابهة للمخلوق الموصوف، ثم حينئذ يصير معلوما فينفى ويسلب، ويقدس الرب عنه وينزه، وهذا الذي قلناه عام في كل أمر يقدر مشترك بين الرب وبين عباده من الأسماء والصفات وغير ذلك، فليس بينهما قدر مشترك يستويان فيه، ولكن هو أحق من كل موجود، [ ص: 439 ] وكامل بكل وصف له وجودية وكمالية، وبنفي كل صفة سلبية ونقيصة، وهو أحق بمناقضة المعدوم الناقص ومنافاته ومباينته من كل شيء، فإذا ثبت لغيره صفة وجودية كمالية كان له من ذلك ما هو أكمل وأعلى وأرفع فإنه سبحانه وتعالى له المثل الأعلى، وإذا نزه غيره عن عدم أو نقص كان له من التنزيه ما هو أكمل وأعلى وأرفع، قال تعالى في الأول: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض [الروم: 27] وقال في الثاني: وإذا بشر أحدهم بالأنثى وهي التي ضرب مثلا إلى قوله: للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى [النحل: 58-60] وإذا ثبت له الأعلى من ثبوت الوجود والكمال ونفي العدم والنقص، فإن الذهن أيضا يأخذ هنا قدرا مشتركا فيجرده تجريدا، وإن لم يكن ذلك موجودا في الخارج ليستدل بذلك القدر المشترك على أن لله ما هو أعلى وأرفع في جانب الوجود والعدم، وهذا الذي يسميه بعض الناس الألفاظ المشككة فينتقل الذهن والمتكلم من إثبات القدر [ ص: 440 ] المشترك إلى القدر المميز وإن لم يكن في الخارج شيء مشترك أصلا، ويثبت من المعاني والألفاظ التي فيها تشبيه واشتراك بحسب ذلك، كلفظ الوجود، والذات، والعليم، والقدير، والسميع، والبصير، وغير ذلك من أسماء الرب وصفاته سبحانه وتعالى، فليس لأحد قط أن يحصر الفارق بين الله وبين غيره في شيء معين من جنس ما يجده من الفوارق بين المخلوقات / حتى يقول إنه ليس بينه وبين غيره من الفرق إلا مثل ما بين كذا وكذا، ولو قال ذلك على تقدير قول منازعه، وذلك أنه على ذلك التقدير أيضا فلله حقيقة اختص بها تباين سائر الخلائق ولا يعلمها العباد.

وبالجملة: فليس أحد يعلم حقيقة الرب كما يعلم الرب نفسه، وقد قال إمام الأئمة صلى الله عليه وسلم: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك".

[ ص: 441 ] وإذا لم يكن هذا معلوما وهو من الأمور التي يباين الله، وتفارق حقيقته بها حقيقة غيره كان المدعي انحصار المباينة والمفارقة في شيء معين مبطلا قائلا على الله غير الحق مفتريا عليه، وهذه الجملة مع بيانها فإنها نافعة في أصول عظيمة.

التالي السابق


الخدمات العلمية