الوجه الثالث عشر: أن تسميتك أصحابك أهل التوحيد [ ص: 428 ] والتنزيه، هو مما اتبعتم فيه المعتزلة نفاة الصفات، فإنهم فسروا التوحيد بتفسير لم يدل عليه الكتاب والسنة ولا قاله أحد من سلف الأمة وأئمتها، كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى; وادعوا أن من أثبت الصفات لم يكن موحدا، لأن الواحد عندهم -الذي لا يعقل فيه- ما تميز منه شيء عن شيء أصلا، وثبوت الصفات يقتضي الكثرة، والذي جعلوه واحدا لا ينطبق إلا على معدوم ممتنع، كما سيأتي بيانه.
ومن المعلوم أن مثل عبادة الله وحده لا شريك له، فمن عبد غيره كان مشركا ولم يكن موحدا، وإن أقر أنه خالق كل شيء، كما قال تعالى: التوحيد الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه، والتنزيه الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه، هو ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع; وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [يوسف: 106] وقال تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [لقمان: 25] وقال تعالى: قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون [المؤمنون: 84-85] وقال تعالى: وإلهكم إله واحد [البقرة: 163] وقال تعالى: وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد [النحل: 51] وأمثال هذه الآيات.
وأما وكذلك جعل التشبيه ضد التوحيد، وتفسير التشبيه بما فيه إثبات الصفات. هو أيضا باطل، فإن التوحيد نقيضه الإشراك بالله تعالى والتمثيل له بخلقه، وإن كان ينافي التوحيد فليس المراد بذلك ما يسمونه هم تشبها، فإنهم يسمون المعاني بأسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، مرتبين على ذلك الحمد والذم، ومن علق الحمد والذم بأسماء ليست مما أنزل الله بها سلطانا بين فيه ما يحمده وما يذمه، فقد ابتدع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وليس هذا موضع بسط هذا وتبيينه، فإن كل من كان إلى التعطيل أقرب وعن القرآن والإسلام أبعد كان أحق بهذا المعنى الذي تسميه التوحيد والتنزيه. تفسير التوحيد بما يستلزم نفي الصفات، أو نفي علوه على العرش; بل بما يستلزم نفي ما هو أعم من ذلك، فهو شيء [ ص: 429 ] ابتدعته الجهمية لم ينطق به كتاب ولا سنة ولا إمام،
فإن المعتزلة أحق منهم بهذا; لأنهم أحق بنفي الصفات والكثرة، وأحق بنفي الأمور التي يجعلون إثباتها تشبيها، والفلاسفة أحق من المعتزلة بهذا، وأهل وحدة الوجود أحق بهذا من الفلاسفة، ولهذا يدعون من التوحيد والتحقيق والعرفان بحسب هذا الوضع والإصلاح الذي ابتدعوه ما لا يمكن هؤلاء رده إلا بنقض الأصول المبتدعة، التي وافقوهم عليها، ومن [ ص: 430 ] المعلوم أن الوجود المطلق ليس شيئا له وجود في الخارج مطلقا، حتى يوصف بوحدة ولا كثرة، وإنما حقيقة قولهم قول أهل التعطيل الذي هم شرار الدهرية، فظهر أن توحيدهم هذا وتنزيههم هذا دهليز التعطيل والزندقة، وأن من كان أعظم تعطيلا وإلحادا، كان أحق بتوحيدهم وتنزيههم هذا، وهذا بخلاف ما كان من أهل الإثبات المقرين بالتوحيد والتنزيه، الذي جاءت به الرسل عليهم السلام، ونزلت به الكتب، التوحيد العلمي القولي، كالتوحيد الذي دلت عليه السورة، التي هي صفة الرحمن، وهي تعدل ثلث القرآن. والتوحيد العملي [ ص: 431 ] الإرادي الذي دلت عليه السورة التي هي براءة من الشرك، وهما سورتا الإخلاص، فإن هؤلاء الموحدين، كما حققوا هذا التوحيد بعدوا عن أهل الشرك والتعطيل وتبرءوا منهم، كما قال إمامهم إبراهيم لقومه: إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين [الزخرف: 26-27] وقال: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين [الشعراء: 75-77] وقال: يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين [الأنعام: 78-79] وقال تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده [الممتحنة: 4].