الوجه الرابع عشر: يقال له: قد تقدم الكلام على هذا اللفظ المجمل غير مرة. قوله: «أهل التوحيد والتنزيه الذين عزلوا حكم الوهم والخيال في ذات الله تعالى وصفاته»
ثم يقال له: لا ريب أن الله تعالى أنزل كتابه بيانا للناس وهدى وشفاء، وقال تعالى فيه: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [النحل: 89] وقال: ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء [ ص: 432 ] [يوسف: 111] وقال: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [الإسراء: 9] وقال: فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى [طه: 123] وقال: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء [الأعراف: 3] وقال تعالى: وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون [التوبة: 115] وقال: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا [الشورى: 52] وقال: فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون [الأعراف: 157] وقال: قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام [المائدة: 15-16] وقالت الجن: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به [الجن: 1-2] وقص الله تعالى ذلك عنهم على سبيل التصديق لهم في ذلك، والثناء عليهم بهذا القول، وكذلك قولهم: يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم [الأحقاف: 30] وأمثال هذا كثير.
وقد بين الله تعالى ما يتقى من القول فيه والظن، فقال تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [الأعراف: 33] وقال عن الشيطان: إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [البقرة: 169] وقال تعالى: لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق [النساء: 171] [ ص: 433 ] وقال: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم [آل عمران: 66] وقال: يجادلونك في الحق بعدما تبين [الأنفال: 6] كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذم من يقول ما لا يعلم، ومن يقول غير الحق، ومن يجادل فيما لا يعلم، ومن يجادل في غير الحق، وقال تعالى في موضع آخر: «القضاة ثلاثة، قاضيان في النار وقاض في الجنة: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار» ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس [النجم: 23] وقال: وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا [النجم: 28] وقال تعالى: ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير [الحج: 8]. [ ص: 434 ] ومن المعلوم أن العلم له طرق ومدارك وقوى باطنة وظاهرة في الإنسان، فإنه يحس الأشياء ويشهدها، ثم يتخيلها ويتوهمها ويضبطها بعقله، ويقيس ما غاب على ما شهد، والذي يناله الإنسان بهذه الأسباب قد يكون علما، وقد يكون ظنا لا يعلمه، وما يقوله ويعتقده ويحسه ويتخيله، قد يكون حقا وقد يكون باطلا. فالله سبحانه وتعالى لم يفرق بين إدراك وإدراك، ولا بين سبب وسبب، ولا بين القوى الباطنة والظاهرة، فجعل بعض ذلك مقبولا وبعضه مردودا، بل جعل المردود هو قول غير الحق والقول بلا علم مطلقا.
فلو كان بعض أجناس الإدراك وطرقه باطلا مطلقا في حق الله تعالى، أو كان حكمه غير مقبول، كان رد ذلك مطلقا واجبا، والمنع من قبوله مطلقا متعينا إن لم يعلم بجهة أخرى، كما قال في الخبر: إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا [الحجرات: 6] وقال في الاعتبار والقياس الصحيح إن الله يأمر بالعدل [النحل: 90] وإذا قلتم فاعدلوا [الأنعام: 152] كونوا قوامين لله شهداء بالقسط [المائدة: 8] ليقوم الناس بالقسط [الحديد: 25] فلما كان من المخبرين من لا يقبل خبره إذا انفرد، أمر بالتثبت في خبره، ولما كان القياس والاعتبار يحصل فيه الظلم والبغي، بتسوية الشيء بما ليس مثله في الشرع والعقل، أمر بالعدل [ ص: 435 ] والقسط، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم [آل عمران: 19] فبين تعالى أن سبب الاختلاف هو البغي الذي هو خلاف العدل، فالشبهة الفاسدة من هذا النمط، وهي من أسباب الاختلاف بعد بيان الكتاب والسنة للحق المعلوم، كما قال تعالى: وقال تعالى: ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق [سبأ: 6].
فلو كان في الإحساس الباطن والظاهر ما يرد حكمه مطلقا، حتى يوافقه إحساس آخر، لكان ذلك أيضا مردودا، وليبين ذلك كما بين نظيره، فإن الحاجة إلى ذلك في أصل الإيمان أعظم من الحاجة إلى ما هو دون ذلك بدرجات كثيرة، فلما كان المحرم هو اتباع الظن وما تهوى الأنفس، والقول في الدين بلا علم، أو قول غير الحق، نهى عن ذلك ولم يفرق بين إحساس ظاهر أو باطن، ولا بين حس وعقل، فلم يكن أحد ليفرق بين ما جمع الله تعالى بينه، ويجمع بين ما فرق الله تعالى بينه، بل يتبع كتاب الله تعالى على وجهه، والله أعلم.
والذي دل عليه الكتاب أن طرق الحس والخيال والعقل وغير ذلك متى لم يكن عالما بموجبها لم يكن له أن يقول على الله، وليس له أن يقول عليه إلا الحق، وليس له أن يقفو ما ليس له به علم لا في حق الله ولا في حق غيره، فأما تخصيص الإحساس الباطن بمنعه عن تصور الأمور الإلهية بحسه، فهو [ ص: 436 ] خلاف ما دل عليه القرآن من تسوية هذا بسائر أنواع الإحساس في المنع، وأن القول بموجبها جميعها إذا كان باطلا حرم في حق الله تعالى وحق عباده، وإن كان حقا لم ينه عنه في شيء من ذلك.
يؤكد ذلك أن حكم الوهم والخيال غالب على الآدميين في الأمور الإلهية. بل وغيرها، فلو كان ذلك كله باطلا لكان نفي ذلك من أعظم الواجبات في الشريعة، ولكان أدنى الأحوال أن يقول الشارع من جنس ما يقوله بعض النفاة: ما تخيلته فالله بخلافه، لا سيما مع كثرة ما ذكره لهم من الصفات.