والنوع الثاني: التقدم والسبق والأولية بالزمان، كقوله سبحانه وتعالى حتى عاد كالعرجون القديم [يس: 39] وقوله: وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم [الأحقاف: 11] وقول إبراهيم عليه السلام: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين [الشعراء: 75-77] وقوله تعالى: ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين [الحجر: 24] يتناول هذا. وقد فسر أيضا بالاستقدام والاستيخار في صفوف الصلاة. ومنه قوله تعالى: ونكتب ما قدموا وآثارهم [يس: 12] فإن الذي قدموه هو ما فعلوه قبل موتهم، وآثارهم ما أخروه. وقد فسر أيضا بالمكان، وفسرت آثارهم بآثار خطاهم في المسجد والتقدم والتأخر والسبق والأولية في هذا النوع أشهر، وقد يقال: إنما استعمل في المكان لتضمنه التقدم في الزمان أيضا، كما استعمل لفظ الأول والآخر، فإنه لا يكاد يخلو في جميع موارده عن تضمنه نوعا من التقدم بالزمان.
[ ص: 197 ] وأما ما ذكروه من التقدم بالعلية والشرط فهذا قد نوزعوا فيه، وقيل لهم: يمتنع في المقارنة الزمانية أن يكون أحدهما متقدما على الآخر بوجه من الوجوه؛ فإن التقدم إذا كان من عوارض الزمان وهو ضد المقارنة، واجتماع التقدم والتأخر مع المقارنة في شيئين بأعيانهما جمع بين الضدين، فكما أنه يمتنع أن يكون أمامه، ويكون معه في ظرف المكان والمكانة وموانعهما فإنه يمتنع أن يكون قبله، ويكون معه في ظرف الزمان وتوابعه، فمن قال: إن العالم مع الله، لم يصح أن يقول: هو بعده ولا متأخرا عنه، ولا أن يقول إن الله قبله ولا متقدما عليه، وهذا يختص بالكلام على ما أثبتوه من التقدم بالعلية والشرط دون الزمان، وما نفوه من امتناع تقدم الله بالزمان كما نفوا أيضا علوه بالمكان، فيجعل في ذلك فصلان:
[ ص: 198 ] الفصل الأول: ما أثبتوه من التقدم بالعلة والشرط دون الزمان، وأما المتقدم بالشرط كما مثلوه من تقدم الواحد على الاثنين؛ فإن الواحد ليس له وجود خارجي محدد عن المواد؛ بل ليس في الخارج من الوحدان إلا ما له حقيقة تتميز بها؛ ولكن الإنسان يتصور في ذهنه الواحد قبل الاثنين، ويتكلم بلفظ الواحد قبل الاثنين، وهذا ترتيب زماني محسوس، ثم إذا قدر اجتماع تصوره للواحد والاثنين، أو اجتماع نطقه بهما، فهو كاجتماع أعيانهما في الخارج، كما لو اجتمع درهم ودرهمان وثلاثة دراهم، ونحو ذلك، فليس هناك ترتيب أصلا، وليس الدرهم متقدما على الدرهمين، ولا الدرهمان متقدمين على الثلاثة، وقول القائل لا توجد الدرهمان إلا بوجود الدرهم أو لا يوجد الاثنان إلا بوجود الواحد، يقال له: أما الدرهمان الموجودان في الخارج فهما مستغنيان في وجودهما عن الدرهم المنفرد عنهما، لا يشترط وجودهما وجوده بحال؛ ولكن هما متوقفان على وجود أنفسهما كتوقف الدرهم / الواحد على وجود نفسه، فليس بأن يجعل تقدمه عليهما -لكون الاثنين واحدا وواحدا- بأولى من أن يجعل متقدما على نفسه، لأن الواحد واحد، وكل هذا غلط، وهذا الترتيب من جنس التركيب [ ص: 199 ] والافتقار الذي يذكرونه في افتقار الشيء إلى صفته وبعضه، وهو من جنس افتقاره إلى نفسه، فيكون وجوده، لا يكون [إلا] بصفته التي يمتنع أن يكون ذاته بدونها، مثل كون وجوده لا يكون إلا بوجوده، وهو مثل كونه واجبا بنفسه، ولا ريب أن الذهن قد يغلط فيظن في الواجب بنفسه أنه علة نفسه وأن هناك [ ص: 200 ] تقدما وتأخرا، وهو غلط؛ بل هو هو، فتوقف الاثنين على الواحد، وتوقف الثلاثة على الاثنين، هو توقف الجملة على بعض أفرادها، وهو كتوقف الشيء على نفسه كتوقف الاثنين على الاثنين، والثلاثة على الثلاثة، وإذا لم تكن الجملة إلا هذه الأفراد وهذا التأليف، لم يكن المتوقف غير المتوقف عليه، ولم يكن هناك شيء متقدما على شيء بوجه من الوجوه في الخارج، إلا إذا وجد أحدهما قبل الآخر، فيكون الترتيب زمانيا، وهو حق، ولكن الذهن قد يدرك المفرد قبل الجملة، والبسيط قبل المركب، والواحد قبل العدد، وننطق بذلك فيكون الترتيب في علمنا ونطقنا لا في الحقيقة نفسها، فهذا هو التقدم بالشرط الذي يجعلونه في الأعداد والمقادير والمركبات ونحو ذلك، وكذلك هو في الصفات والكيفيات، فإنه إذا قيل: العلم والقدرة مشروطة بالحياة، والشرط متقدم على المشروط، فليس في الموصوف ترتيب بحال؛ بل الحياة والعلم والقدرة موجودة معا بكل وجه؛ لكن العلم يستلزم وجود الحياة، فلا يوجد إلا معها، لا أنه لا يوجد إلا بعدها، وإذا لم يوجد إلا معها -سواء كانت قبله أو لم تكن- لم يقتض ذلك أنه يجب تأخره عنها؛ بل إذا قارنها فهو مقارن لها، وإذا قدر حياة لا علم معها، ثم حصل معها علم فهنا هو متأخر عنها في الزمان أيضا.