[ ص: 287 ] الوجه الرابع عشر: من شبههم ادعاء التماثل بين الله وخلقه ولو كان جسما لكان مثلا لسائر الأجسام؛ لأن الأجسام متماثلة، وكل حجة مبناها على التمثيل بين الله وبين خلقه، تحقيقا أو تقديرا، فإنها حجة باطلة، لأن هذا منتف في نفس الأمر والعلم بانتفائه ضروري، فإذا كانت الحجة لا تتم إلا بهذه المماثلة الباطلة كانت باطلة، وهم يستعملون التمثيل في حق الله من وجوه: أن هؤلاء الجهمية مدار جميع حججهم في هذا الباب على التمثيل بين الله تعالى وبين خلقه، مثل قولهم: لو كان له صفات لكان كسائر الموصوفين من الأجسام، ولو كان مرئيا لكان حكمه حكم سائر المرئيات،
أحدها: أنهم يجعلون ما يثبت له من الصفات التي ورد بها الشرع مثل الثابتة للمخلوق، ويحكمون عليه بما يحكمون على ذلك ثم ينفون بعد ذلك، فيمثلون ويعطلون.
الثاني: أنهم يمثلونه في السلوب والأمور العدمية التي لا تستلزم صفة كمال بالمعدومات الناقصات.
الثالث: أن ما ينفونه عنه يقدرون ثبوته له، وأنه إذا ثبت له كان مساويا لغيره، وهذا أيضا باطل.
[ ص: 288 ] الرابع: أن ما يثبتونه مثل وجوده وكونه عالما قادرا، ونحو ذلك يثبتونه على مماثلته لما يوصف بهذه الأمور.
الخامس: أن ما أقروه من الصفات الشرعية أثبتوا فيه المماثلة، فهم يثبتون المقايسة والمماثلة فيما يثبتونه بالعقل، وفيما يقرونه من الشرع، وفيما ينفونه من الصفات الشرعية ومن الصفات العقلية، ويمثلونه أيضا بالناقصات والمعدومات، فهذا عدلهم وإشراكهم بالله من هذه الوجوه الخمسة.
وأما تعطيلهم فمن وجوه أيضا:
أحدها: نفي مضمون الأسماء والصفات الشرعية.
والثاني: نفي الحقائق العقلية.
والثالث: وصفه بالصفات العدمية التي لا تستلزم وجودا، وهذه الصفات لا تكون إلا لمعدوم.
الرابع: جمعهم بين النقيضين وهذا هو صفة المعدوم الممتنع / وأما منازعوهم فحجتهم مبناها على قياس الأولى والأحرى، وهذه حق في الشرع والعقل، فإنهم أوجبوا علوه ومباينته ومنعوا خلوه عن النقيضين بقياس الأولى، وذلك أن علوه على العالم مع أنه معلوم بالفطرة فهو ثابت أيضا بالأقيسة العقلية البرهانية التي مبناها على الأولى والأحرى، وذلك [ ص: 289 ] كقولهم: إن القائم بنفسه لابد أن يكون مباينا للقائم بنفسه بالجهة، وقولهم: إن القائم بنفسه المباين للقائم بنفسه لا تكون مباينته له بمجرد الحقيقة والزمان، بل بقدر زائد على ذلك وليس إلا الجهة، وقولهم: إن القائم بنفسه إما أن يكون مماسا لغيره أو مباينا له، وقولهم: الموجود هو إما قائم بنفسه أو قائم بغيره، وهذا متفق عليه، وهو إما مباين لغيره وإما محايث له، وإما داخل في غيره، وإما خارج عنه، وهو مباين لغيره إما بالحقيقة أو المكان أو الزمان، وأمثال هذه المقاييس التي هي عندهم من البراهين العقلية التي يثبتون بها مباينته وعلوه ووجوب ذلك له.
وأما ما يثبتون به امتناع ما تقوله النفاة فمثل قولهم إثبات موجود مباين لغيره ولا محايث له ممتنع في البديهة، وهو إثبات موجود لا قائم بنفسه، ولا قائم بغيره، وكذلك قولهم: لا داخل العالم ولا خارجه.
وعلى هذا فمن فسر الجوهر بالقائم بنفسه والعرض بالقائم بغيره، وادعى وجود موجود ليس بجوهر ولا عرض فقد ادعى ما يعلم فساده بالبديهة، ثم إنهم يقولون: ما وجب للقائم بنفسه أو للموجود من وجوب المباينة لغيره الذي يقتضي عدم المحايثة وكونه فيه فالله أحق به وأولى، لأن الله تعالى هو القيوم الغني فهو أحق بما يستوجبه القيام والغنى، ويقولون: ما امتنع على الموجود من كونه غير قائم بنفسه ولا قائم بغيره ولا محايثا ولا مباينا أو لا داخل العالم ولا خارجه، فإنما امتنع المنافي [ ص: 290 ] لعدمه، وأن هذه صفة المعدوم وكل أمر منعه الوجود واختص به المعدوم فوجود الرب أحق بمنعه، والله أحق بالتنزيه عنه من غيره من الموجودات، والله سبحانه أبعد عن كل ما ينافي الوجود ويمانعه ويعارضه ويختص بالمعدوم، إذ وجوده هو الوجود الواجب الذي ينافي العدم من كل وجه.
وهو عن ذلك أبعد. فتبين أن هؤلاء لما رأوا نوع كمال وغنى يجب للمخلوقات علموا أن الخالق أحق به، ولما رأوا نوع عدم يمتنع على الموجودات ويتنزه عنه علموا أن تنزيه الخالق أحق بذلك
وهذا من أحسن النظر والاعتبار العقلي الموافق للعقل الصريح، وبهذا جاء كتاب الله في غير موضع فيما ضربه من القياس والمثال كقوله سبحانه حيث نفى عن نفسه الشريك والولد في مواضع مثل قوله في سورة النحل: ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى [الآيات: 57-60] وكقوله: والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون [النحل: 71] وقوله تعالى: ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم [ ص: 291 ] [الروم: 28] وكقوله تعالى: ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا [الإسراء: 39-42]/ وكقوله سبحانه: فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون [الصافات: 149] وقوله تعالى: وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون [الزخرف: 15-19] وقال تعالى: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى [النجم: 19-22] وقال: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون [الأنعام: 136] وقال: وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم [يس: 78-81] وقال تعالى: [ ص: 292 ] وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم [الروم: 27] وقال تعالى: أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير [الأحقاف: 33] وقال: إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون [غافر: 56-57].
وليس هذا الموضع موضع استقصاء الكلام في هذا كله، وإنما نبهنا على جماع ذلك وأصله. [ ص: 293 ]