وهؤلاء إذا أنشد شعر بعضهم بصوت ملحن كشعر التلمساني وبعض شعر ابن إسرائيل ، مثل قوله :
وما أنت غير الكون بل أنت عينه . . . ويفهم هذا السر من هو ذائق
وقوله :
وتلتذ إن مرت على جسدي يدي . . . لأني في التحقيق لست سواكم
كان هذا من سماع الذي هو سبب الكفر .
وأما المجمل من الحروف والأصوات فمثل كثير من المنطق والكلام ، ومثل الأشعار التي فيها ذكر الحب مطلقا بتوابعه من الهجر والوصل والصدود والشوق ، مثل كثير من شعر ؛ فإن تلك القصيدة يتقبلها الزنديق ابن الفارض التلمساني ونحوه ممن يقول : إن الله هو وجود [ ص: 139 ] المخلوقات . وقد نقلها قوم صحيحو الاعتقاد من الصوفية ، وأخذوا ما فيها من وصف الحب وأهله ، وتنازع الفريقان قوله :
ولي من أتم النظرتين إشارة . . . تنزه عن رأي الحلول عقيدتي
فأولئك . وهؤلاء المنافقون يقولون : إنه صعد عن الحلول إلى الاتحاد ، بل إلى وحدة الوجود ، فإن الحلول فيه حال ومحل ، وهذا يثبته ، وإنما الوجود شيء واحد ، فهذا أراد . المؤمنون يقولون : بل أراد إثبات عبوديته لله ، وأنه لا يحل مخلوقاته ، بل هو بائن من خلقه ، كما هو مذهب المسلمين أهل السنة والجماعة
لكن من تأمل بقية هذه القصيدة ، وتأمل هذه الأبيات وما بعدها وجدها صريحة في مذهب الاتحادية المنافقين الفرعونية القرامطة ، وعلم أن نفسه ونفس التلمساني هو نفس ، وأن هؤلاء كلهم قولهم كفر صريح معلوم فساده بالاضطرار العقلي والشرعي والاضطرار الذوقي أيضا ، ولكن لكثرة ما يصفون جنس الحب يبقى في كلامهم إبهام . ابن العربي
وكذلك الأصوات المثيرة للوجد والطرب تحرك كل قلب إلى مطلوبه ، فيشترك فيها : محب الرحمن ، ومحب الأوثان ، ومحب الصلبان ، ومحب النسوان ، ومحب المردان ، ومحب الأوطان ، ومحب الإخوان . ولهذا لم تجئ الشريعة بهذا السماع ، ولا فعلها القرون الثلاثة [ ص: 140 ] الفاضلة ، بل هو محدث في حدود أواخر المائة الثانية ، ولهذا امتنع عن حضوره أكابر العارفين وأئمة العلم وأهل الاتباع للشريعة ، ونهوا عنه .
وقد حضره جماعات من المشايخ الصالحين وأهل الأحوال ، لما تثير فيهم من وجدهم الكامن ، فيثير العزم الساكن ، ويهيج الوجد القاطن . وكانوا في حضوره على درجات ، وشاركهم فيه جماعات من أهل البدع والضلالات ، وإن كان لهم أحوال فيها كشوف وتأثيرات ، تنتج لهم أحوالا غير مرضية للرحمن ، مثل تحضير أهل الكفر والفسوق والعصيان ، ومثل مغالبة بعضهم بعضا ، والسعي في سلب إيمانه أو حال إيمانه ، أو غير ذلك من أنواع البغي والعدوان ، فدخلوا بذلك في الإعانة على الإثم والعدوان ، وفرطوا فيما أمروا به من الإعانة على البر والتقوى .
وصار بسبب كونه مشتركا يشترك فيه المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، والصديق والزنديق ، بمنزلة من بنى معبدا مطلقا يتعبد فيه كل أهل ملة ونحلة ، فيجتمع فيه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس والمشركون والصابئون ، كل يصلي إلى قبلته ، ولا ينهى بعضهم بعضا ، وجعل لهم فيه مطاعم وملابس . فقد يتفقون لما فيه من القدر المشترك من المطعم والملبس والمسكن ، ويتفاوتون لما فيه من اختلاف مقاصدهم ونياتهم ووجههم ، فإن وجه القلوب أعظم تفاوتا من وجه الأجساد . [ ص: 141 ]
ولهذا اتفقت الأنبياء والمرسلون على أن وجهة قلوبهم إلى الله وحده لا شريك [له] ، كما قال تعالى : قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين [الأعراف :29] ، وقال تعالى : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا ، واتخذ الله إبراهيم خليلا [النساء :125] ، وقال تعالى : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ، تلك أمانيهم ، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [البقرة :111 - 112] .