وهذا كالمنافع في الإجارة ، هي مضمونة على المؤجر حتى يستوفي ، خلي بين المؤجر وبين المستأجر ، فإذا قبض المستأجر العين كان كقبض الشجرة التي عليها ثمرة ، ثم كلاهما إذا تلف قبل التمكن من الانتفاع فهي من ضمان البائع والمؤجر ، ، وأما البيع فيجوز إذا أخذها ، لأنه عمل [ ص: 311 ] على التاجر بقبضها ، وحفظها كما يحفظ التاجر سلعته . فهذا المعنى إذا فهم انكشف به مقصود هذا الباب ، فإنه قد أشكل على كثير من الفقهاء أولي الألباب . فالموجب لانتقال الضمان هو تمكن المشتري من الانتفاع
وبهذا يتبين أن أظهر القولين أنه يجوز أن يقول : «عجل لي وأضع عنك » ، كما نقل عن وغيره . وقد روي ابن عباس . وهذا لأن صاحب المال هنا لم يربح ، كما إذا قال : أجعل المئة بمئة وعشرين إلى سنة ، بل نقص ماله لأجل تعجيل القبض ، والمدين ما ربح شيئا ، سقط عن ذمته . فهذا مقصوده استيفاء الدين لا بيع الدين ، ولهذا جازت الحوالة لأنها إيفاء . أن اليهود لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم إجلاءهم من المدينة قالوا : إن لنا ديونا ، فقال : «يعجلونها لكم ، وضعوا عنهم البعض »
ولهذا جوز مالك وغيرهما بيع وأبو حنيفة ، إذا كان لهذا على هذا دراهم ، وللآخر ذهب ، فقال : أسقط هذا بهذا ، فهذا يجوز في أظهر القولين ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن بيع الدين بالدين ، ولكن روي أنه الدين الساقط بالساقط ، مع ضعف الحديث . لكن بيع المؤخر بالمؤخر -مثل أن يسلم شيئا مؤخرا في الذمة في شيء في الذمة- لا يجوز باتفاقهم إذا كان كل منهما شغل ذمته بما للآخر ، من غير منفعة حصلت لأحدهما . والمقصود بالبيع النفع ، فهذا يكون أحدهما قد أكل مال الآخر بالباطل إذا قال : أسلمت إليك [ ص: 312 ] مئة درهم إلى سنة في وسق حنطة ولم يعطه شيئا ، فإن هذه المعاملة ليس فيها منفعة بل مضرة ، هذا يطلب هذا بالحنطة ، وهذا يطلب هذا بالدراهم ، ولم ينتفع واحد منهما ، بل أكل مال الآخر بالباطل من غير نفع نفعه به ، وهذا بخلاف بيع الساقط بالساقط ، فإن براءة ذمة كل منهما منفعة له . نهى عن بيع الكالئ بالكالئ
وكذلك إذا قال : عجل لي وأضع عنك ، فالمعجل برئت ذمته بإقباض البعض ، فأبرأه من الباقي ، وهذا منفعة له ، بخلاف ما إذا زيد عليه في الدين ، فذاك يضره . وصاحب الدين انتفع بتعجيل القبض ، وكل منهما انتفع . وهنا المؤجل صار حالا بل ساقطا ، ليس مثله أن يبيعه دراهم إلى أجل بدراهم معجلة ، فإنه هنا أجل عليه ما لم يكن مؤجلا ، فشغل ذمته بغير منفعة ، وهذا ضرر ، وأمر الشارع عدل وحكمة ورحمة ، وهو إنما ينهى الناس عما يضرهم ، لا عما ينفعهم .