[ جعل ]
ومن ذلك وهي أحد الأفعال المشتركة التي هي أمهات الأحداث ، وهي : " فعل " ، و " عمل " ، و " جعل " ، و " طفق " ، و " أنشأ " ، و " أقبل " ، وأعمها ( فعل ) يقع على القول والهم ، وغيرهما : ( جعل ويفعلون ما يؤمرون ) ( النحل : 50 ) . ودونه " عمل " لا ينتظم النية ، والهم ، والعزم والقول : ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل ) ( الفرقان : 23 ) أي من صلاة وصدقة وجهاد . ولـ " جعل " أحوال :
[ ص: 114 ] أحدها : بمعنى سمى كقوله تعالى : ( الذين جعلوا القرآن عضين ) ( الحجر : 91 ) أي سموه كذبا ، وقوله : ( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ) ( الزخرف : 19 ) على قول . ويشهد له قوله تعالى : ( إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى ) ( النجم : 27 ) .
الثاني : بمعنى المقاربة ، مثل " كاد " و " طفق " ، لكنها تفيد ملابسة الفعل ، والشروع فيه ، تقول : جعل يقول ، وجعل يفعل كذا ، إذا شرع فيه .
الثالث : بمعنى الخلق ، والاختراع ، فتعدى لواحد كقوله تعالى : ( وجعل الظلمات والنور ) ( الأنعام : 1 ) أي خلقهما . فإن قيل : ما قيل : إن الخلق فيه معنى التقدير ، وفي الجعل معنى التصيير ، كإنشاء شيء من شيء ، أو تصيير شيء شيئا ، أو نقله من مكان ، ويتعدى لمفعول واحد لأنه لا يتعلق إلا بواحد وهو المخلوق . الفرق بين الجعل والخلق ؟
وأيضا فالخلق يكون عن عدم سابق ، حيث لا يتقدم مادة ولا سبب محسوس ، والجعل يتوقف على موجود مغاير للمجعول ، يكون منه المجعول أو عنه ، كالمادة والسبب ، ولا يرد في القرآن العظيم لفظ " جعل " في الأكثر مرادا به الخلق ، إلا حيث يكون قبله ما يكون عنه أو منه ، أو شيئا فيه محسوسا عنه ، فيكون ذلك المخلوق الثاني ، بخلاف " خلق " ، فإن العبارة تقع كثيرا به عما لم يتقدم وجوده وجود مغاير ، يكون عنه هذا الثاني ، قال الله تعالى : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ) ( الأنعام : 1 ) وإنما الظلمات والنور عن أجرام توجد بوجودها ، وتعدم بعدمها .
وقال تعالى : ( وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي ) ( الرعد : 3 ) . وقال : ( وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ) ( الزخرف : 12 ) . وقال سبحانه في سورة الأعراف : ( وجعل منها زوجها ) ( الأعراف : 189 ) . وفي سورة النساء : ( وخلق منها زوجها ) [ ص: 115 ] ( النساء : 1 ) فهو يدل على أنهما قد يستعملان استعمال المترادفين .
الرابع : بمعنى النقل من حال إلى حال والتصيير ، فيتعدى إلى مفعولين إما حسا كقوله تعالى : ( الذي جعل لكم الأرض فراشا ) ( البقرة : 22 ) ( والله جعل لكم الأرض بساطا ) ( نوح : 19 ) ( فجعلهم جذاذا ) ( الأنبياء : 58 ) ( وجعلناهم أئمة ) ( القصص : 41 ) ( وجعلناكم أكثر نفيرا ) ( الإسراء : 6 ) . وإما عقلا ، مثل ( أجعل الآلهة إلها واحدا ) ( ص : 5 ) ( جاعل الملائكة رسلا ) ( فاطر : 1 ) .
ونحو قوله : ( اجعل هذا البلد آمنا ) ( إبراهيم : 35 ) وقوله : ( وجعلنا الليل لباسا ) ( النبأ : 10 ) لأنه يتعلق بشيئين : المنقول ، وهو الليل ، والمنقول إليه ، وهو اللباس . وأبين منه قوله تعالى : ( وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ) ( الكهف : 8 ) ( جعلنا عاليها سافلها ) ( هود : 82 ) ( وجعلنا نومكم سباتا ) ( النبأ : 9 ) .
والمعاش في قوله : ( وجعلنا النهار معاشا ) ( النبأ : 11 ) اسم زمان لكون الثاني هو الأول ، ويجوز أن يكون مصدرا لمعنى المعيش ( وجعلنا ابن مريم وأمه آية ) ( المؤمنون : 50 ) ومعناه صيرناه ، لأن مريم إنما صارت مع ولدها عليه السلام لما خلق من جسدها لا من أب ، فصارا عند ذلك آية للعالمين ، ومحال أنه يريد " خلقناهما " ، لأن مريم لم تخلق في حين خلق ولدها ، بل كانت موجودة قبله ، ومحال تعلق القدرة بجعل الموجود موجودا في حال بقائه .
فأما قوله تعالى : ( إنا جعلناه قرآنا عربيا ) ( الزخرف : 3 ) فهو من هذا الباب على جهة الاتساع ، أي : صيرناه يقرأ بلسان عربي لأن غير القرآن ما هو عبري وسرياني ، ولأن معاني القرآن في الكتب السالفة ، بدليل قوله تعالى : ( وإنه لفي زبر الأولين ) ( الشعراء : 196 ) ( إن هذا لفي الصحف الأولى ) ( الأعلى : 18 ) .
وبهذا احتج من أجاز القراءة بالفارسية ، قال : لأنه ليس في زبر الأولين من القرآن إلا [ ص: 116 ] المعنى ، والفارسية تؤدي المعنى ، وإذا عرف هذا فكأنه نقل المعنى من لفظ القرآن فصيره عربيا .
وأخطأ حيث جعله بالخلق ، وهو مردود صناعة ، ومعنى ، أما الصناعة فلأنه يتعدى لمفعولين ، ولو كان بمعنى الخلق لم يتعد إلا إلى واحد ، وتعديته لمفعولين ، وإن احتمل هذا المعنى - لكن بجواز إرادة التسمية أو التصيير على ما سبق . وأما المعنى فلو كان بمعنى " خلقنا التلاوة العربية " ، فباطل لأنه ليس الخلاف في حدوث ما يقوم بألسنتنا ، وإنما الخلاف في أن كلام الله الذي هو أمره ونهيه وخبره ، فعندنا أنه صفة من صفات ذاته ، وهو قديم . الزمخشري
وقالت القدرية : إنه صفة فعل أوجده بعد عدمه ، وأحدثه لنفسه فصار عند حدوثه متكلما بعد أن لم يكن ، فظهر أن الآية على تأويله ليس فيها تأويل لعقيدته الباطلة .
وقال في " أبكار الأفكار " : الجعل فيه بمعنى التسوية ، كقوله تعالى : ( الآمدي الذين جعلوا القرآن عضين ) ( الحجر : 91 ) أي يسمونه كذبا .
قال : ويحتمل أن الجعل على بابه ، والمراد القرآن بمعنى القراءة دون مدلولها ، فإن القرآن قد يطلق بمعنى القراءة ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : أي بالقراءة . ما أذن الله لشيء إذنه لنبي يتغنى في القرآن
[ ص: 117 ] وقال بعضهم : قاعدة العرب في الجعل أن يتعدى لواحد ، وتارة يتعدى لاثنين ، فإن تعدى لواحد لم يكن إلا بمعنى الخلق ، وأما إذا تعدى لاثنين فيجيء كقوله تعالى : ( وجعلنا الليل والنهار آيتين ) ( الإسراء : 12 ) ، وبمعنى التسمية ( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ) ( الزخرف : 19 ) ( الذين جعلوا القرآن عضين ) ( الحجر : 91 ) .
ويجيء بمعنى التصيير كقوله تعالى : ( وجعلنا ابن مريم وأمه آية ) ( المؤمنون : 50 ) أي صيرناهما .
إذا علمت هذا فإذا ثبت أن الجعل المتعدي لاثنين ليس نصا في الخلق ، بل يحتمل الخلق وغيره ، ولم يكن في الآية تعلق للقدرية على خلق القرآن ، لأن الدليل لا بد أن يكون قطعيا لا احتمال فيه ، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق على معنى جعلنا التلاوة عربية . قلت : وهذا يمنع إطلاقه ، وإن جوزنا حدوث الألفاظ لأنها لم تأت عن السلف ، بل نقول القرآن غير مخلوق على الإطلاق .
( الخامس ) بمعنى الاعتقاد كقوله تعالى : ( وجعلوا لله شركاء الجن ) ( الأنعام : 100 ) ( ويجعلون لله ما يكرهون ) ( النحل : 62 ) . وكذلك قوله تعالى : ( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ) ( الزخرف : 19 ) أي اعتقدوهم إناثا .
ويجوز أن يكون كما قبله ، ووجه النقل فيه هو أن الملائكة في نفس الأمر ليسوا إناثا ، فهؤلاء الكفار نقلوهم باعتقادهم فصيروهم في الوجود الذهني إناثا .
ومنهم من جعلها [ ص: 118 ] بمعنى التسمية كقوله تعالى : ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) ( البقرة : 22 ) أي لا تسموها أندادا وأنتم تعلمون أي لا تسموها أندادا ولا تعتقدوها لأنهم ما سموها حتى اعتقدوها . وكذلك ( الذين جعلوا القرآن عضين ) ( الحجر : 91 ) أي سموه ، وجزءوه أجزاء ، فجعلوا بعضه شعرا ، وبعضه سحرا ، وبعضه أساطير الأولين .
وقال في : ( الزجاج وجعلوا الملائكة ) ( الزخرف : 19 ) إنها بمعنى القول ، والحكم على الشيء ، وقوله : ( أجعلتم سقاية الحاج ) ( التوبة : 19 ) أي اعتقدتم هذا مثل هذا .
فأما قوله : ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ) ( ص : 28 ) فالنقل والتصيير راجعان إلى الحال ، أي لا تجعل حال هؤلاء مثل حال هؤلاء ، ولا تنقلها إليها . وكذلك قوله : ( أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه ) ( الرعد : 16 ) أي اعتقدوا له شركاء .
السادس : بمعنى الحكم بالشيء على الشيء يكون في الحق والباطل ، فالحق كقوله : ( إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) ( القصص : 7 ) . والباطل كقوله : ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام ) ( الأنعام : 136 ) الآية .
وبمعنى أوجب كقوله تعالى : ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها ) ( البقرة : 143 ) أي أوجبنا الاستقبال إليها . وكقوله : ( ما جعل الله من بحيرة ) ( المائدة : 103 ) ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها ) ( البقرة : 143 ) ومعنى كنت عليها أي : أنت عليها ، كقوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) ( آل عمران : 110 ) أي أنتم .
[ ص: 119 ] السابع : ذكره الفارسي بمعنى ألقى ، فيتعدى لمفعولين ، أحدهما بنفسه ، والآخر بحرف الجر ، كما في قولك : جعلت متاعك بعضه فوق بعض ، ومثله قوله : ( وجعل فيها رواسي ) ( الرعد : 3 ) .
ومنه قوله تعالى : ( ويجعل الخبيث بعضه على بعض ) ( الأنفال : 37 ) أي يلقي ، و " بعضه " بدل من الخبيث . وقوله : " على بعض " أي فوق بعض . ومثله قوله : ( وجعل فيها رواسي ) ( الرعد : 3 ) أي ألقى بدليل قوله في الآية الأخرى التي علل فيها المراد بخلق الجبال ، وأبان إنعامه ، فقال : ( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ) ( النحل : 15 )
( فائدة ) قوله تعالى : ( وجعلنا الليل والنهار آيتين ) ( الإسراء : 12 ) قيل : كيف يستعمل لفظ الجعل هنا مع أن المجعول عنه ينبغي أن يتحقق قبل الجعل مع صفة المجعول ، كقولك : جعلت زيدا قائما ، فهو قبل ذلك كان متصفا بضد القيام ، وهنا لم يوجد الجعل إلا على هذه الصفة ، فكيف يصح استعمال الجعل فيه ؟
( والجواب ) أن الليل جوهر قام به السواد ، والنهار جوهر قام به النور ، وكذلك الشمس جسم قام به ضوء ، والأجسام والجواهر متقدمة على الأعراض بالذات ، والعرب تراعي مثل هذا ، نقل الفراء أنهم قالوا : أحسنت إليك فكسوتك ، فجعلوا الإحسان متقدما على الكسوة ، بدليل العطف بالفاء ، وليس ذلك إلا تقدم ذاتي ، لأن الإحسان في الخارج هو نفس الكسوة .
ولك أن تقول : لا نسلم أن الإحسان نفس الكسوة ، بل معنى يقوم بالنفس تنشأ عنه الكسوة .