الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 271 ] 51 - كلا .

قال سيبويه : حرف ردع وزجر . قال الصفار : إنها تكون اسما للرد ، إما لرد ما قبلها ، وإما لرد ما بعدها ، كقوله تعالى : كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون ( التكاثر : 3 - 4 ) هي رد لما قبلها ؛ لأنه لما قال : ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ( التكاثر : 1 - 2 ) كان إخبارا بأنهم لا يعلمون الآخرة ولا يصدقون بها ، فقال : كلا سوف تعلمون فلا يحسن الوقف عليها هنا إلا لتبيين ما بعدها ، ولو لم يفتقر لما بعدها لجاز الوقف . وقوله : يحسب أن ماله أخلده كلا ( الهمزة : 3 - 4 ) هي رد لما قبلها فالوقف عليها حسن . انتهى .

وقال ابن الحاجب : شرطه أن يتقدم ما يرد بها " ما " في غرض المتكلم سواء كان من كلام غير المتكلم على سبيل الحكاية أو الإنكار ، أو من كلام غيره .

كقوله تعالى : كلا ( القيامة : 11 ) بعد قوله : يقول الإنسان يومئذ أين المفر ( القيامة : 10 ) .

وكقوله تعالى : قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا ( الشعراء : 61 - 62 ) . لأن قوله " قال " حكاية ما يقال بعد تقدم الأول عن الغير .

وكقولك : أنا أهين العالم كلا . انتهى .

وهي نقيض " إي " في الإثبات كقوله : كلا لا تطعه ( العلق : 19 ) . وقوله : [ ص: 272 ] أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا ( مريم : 78 - 79 ) . وقوله : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا ( مريم : 81 - 82 ) .

وتكون بمعنى حقا صلة لليمين ، كقوله : كلا والقمر ( المدثر : 32 ) . كلا إذا دكت الأرض دكا دكا ( الفجر : 21 ) .

وقوله : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ( المطففين : 15 ) كلا إن كتاب الفجار لفي سجين ( المطففين : 7 ) كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين ( المطففين : 18 ) . وأما قوله : يحسب أن ماله أخلده كلا ( الهمزة : 3 - 4 ) فيحتمل الأمرين .

وقد اختلف القراء في الوقف عليها . فمنهم من يقف عليها أينما وقعت ، وغلب عليها معنى الزجر . ومنهم من يقف دونها أينما وقعت ، ويبتدئ بها وغلب عليها معنى الزجر . ومنهم من يقف دونها أينما وقعت ويبتدئ بها وغلب عليها أن تكون لتحقيق ما بعدها .

ومنهم من نظر إلى المعنيين ، فيقف عليها إذا كانت بمعنى الردع ، ويبتدئ بها إذا كانت بمعنى التحقيق وهو أولى .

ونقل ابن فارس عن بعضهم أن ذلك وهذا نقيضان لكلا ، وأن كذلك نقيض لكلا كقوله تعالى : ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ( محمد : 4 ) على معنى ذلك كما قلنا وكما فعلنا . ومثله : هذا وإن للطاغين لشر مآب ( ص : 55 ) .

قال : ويدل على هذا المعنى دخول الواو بعد قوله : ذلك ، وهذا لأن ما بعد الواو [ ص: 273 ] يكون معطوفا على ما قبله بها وإن كان مضمرا ، وقال تعالى : وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ( الفرقان : 32 ) ثم قال : كذلك أي كذلك فعلنا ونفعله من التنزيل وهو كثير .

وقيل : إنها إذا كانت بمعنى لا فإنها تدخل على جملة محذوفة ، فيها نفي لما قبلها ، والتقدير : ليس الأمر كذلك ، وهي على هذا حرف دال على هذا المعنى ، ولا مواضع لها ، ولا تستعمل عند خلاف النحويين بهذا المعنى إلا في الوقف عليها ، ويكون زجرا وردا أو إنكارا لما قبلها ، وهذا مذهب الخليل وسيبويه والأخفش والمبرد والزجاج وغيرهم ، لأن فيها معنى التهديد والوعيد ، ولذلك لم تقع في القرآن إلا في سورة مكية ، لأن التهديد والوعيد أكثر ما نزل بمكة ، لأن أكثر عتو المشركين وتجبرهم بمكة ، فإذا رأيت سورة فيها كلا فاعلم أنها مكية .

وتكون كلا بمعنى حقا عند الكسائي ، فيبتدأ بها لتأكيد ما بعدها ، فتكون في موضع المصدر ، ويكون موضعها نصبا على المصدر ، والعامل محذوف ، أي أحق ذلك حقا .

ولا تستعمل بهذا المعنى عند حذاق النحويين إلا إذا ابتدئ بها لتأكيد ما بعدها .

وتكون بمعنى " ألا " فيستفتح بها الكلام وهي على هذا حرف ، وهذا مذهب أبي حاتم ، واستدل على أنها للاستفتاح أنه روى أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بخمس آيات من سورة العلق ، ولما قال : علم الإنسان ما لم يعلم ( الآية : 5 ) طوى النمط ، فهو وقف صحيح ، ثم لما نزل بعد ذلك : كلا إن الإنسان ليطغى ( العلق : 6 ) فدل على أن الابتداء بكلا من طريق الوحي ، فهي في الابتداء بمعنى ألا عنده .

فقد حصل لكلا معاني النفي في الوقف عليها ، وحقا و ألا في الابتداء بها .

وجميع كلا في القرآن ثلاثة وثلاثون موضعا ، في خمس عشرة سورة ، ليس في النصف الأول من ذلك شيء .

[ ص: 274 ] وقوله تعالى : كلا إنها كلمة هو قائلها ( المؤمنون : 100 ) على معنى " ألا " ، واختار قوم جعلها بمعنى حقا ، وهو بعيد لأنه يلزم فتح إن بعدها ، ولم يقرأ به أحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية