الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
52 - كل

اسم وضع لضم أجزاء الشيء على جهة الإحاطة من حيث كان لفظه مأخوذا من لفظ الإكليل ، والكلة والكلالة ، مما هو للإحاطة بالشيء ، وذلك ضربان :

أحدهما : انضمام لذات الشيء وأحواله المختصة به ، وتفيد معنى التمام كقوله تعالى : ولا تبسطها كل البسط ( الإسراء : 29 ) أي بسطا تاما . فلا تميلوا كل الميل ( النساء : 129 ) ونحوه .

والثاني : انضمام الذوات وهو المفيد للاستغراق .

ثم إن دخل على منكر أوجب عموم أفراد المضاف إليه ، أو على معرف أوجب عموم أجزاء ما دخل عليه . وهو ملازم للأسماء ولا يدخل على الأفعال .

وأما قوله تعالى : وكل أتوه داخرين ( النمل : 87 ) فالتنوين بدل من المضاف أي كل واحد . وهو لازم للإضافة معنى ، ولا يلزم إضافته لفظا إلا إذا وقع تأكيدا أو نعتا ، وإضافته منوية عند تجرده منها .

ويضاف تارة إلى الجمع المعرف نحو : كل القوم ، ومثله اسم الجنس ، نحو : كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل ( آل عمران : 93 ) وتارة إلى ضميره ، نحو : وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ( مريم : 95 ) فسجد الملائكة كلهم أجمعون ( الحجر : 30 ) ليظهره على الدين كله ( الفتح : 28 ) . وإلى نكرة مفردة ، نحو : وكل إنسان ألزمناه طائره ( الإسراء : 13 ) والله بكل شيء عليم ( النساء : 176 ) كل نفس بما كسبت رهينة ( المدثر : 38 ) .

وربما خلا من الإضافة لفظا وينوى فيه ، نحو : كل في فلك يسبحون ( الأنبياء : 33 ) وكل أتوه داخرين ( النمل : 87 ) وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ( مريم : 95 ) كلا هدينا ( الأنعام : 84 ) كل من الصابرين ( الأنبياء : 85 ) وكلا ضربنا له الأمثال ( الفرقان : 37 ) .

[ ص: 275 ] وهل تنوينه حينئذ عوض أو تنوين صرف ؟ قولان .

قال أبو الفتح : وتقديمها أحسن من تأخيرها لأن التقدير : " كلهم " ، فلو أخرت لباشرت العوامل ، مع أنها في المعنى منزلة منزلة ما لا يباشره ، فلما تقدمت أشبهت المرتفعة بالابتداء في أن كلا منهما لم يل عاملا في اللفظ ، وأما " كل " المؤكد بها فلازمة للإضافة .

وأجاز الزمخشري تبعا للفراء قطعها عن الإضافة لفظا نحو : إنا كل فيها ( غافر : 48 ) وخرجها ابن مالك على أن " كلا " حال من ضمير الظرف ، وتحصل أن لها ثلاثة أحوال : مؤكدة ، ومبتدأ بها مضافة ، ومقطوعة عن الإضافة .

فأما المؤكدة فالأصل فيها أن تكون توكيدا للجملة ، أو ما هو في حكم الجملة مما يتبعض ، لأن موضوعها الإحاطة كما سبق .

وأما المضافة غير المؤكدة ، فالأصل فيها أن تضاف إلى النكرة الشائعة في الجنس لأجل معنى الإحاطة ، وهو إنما ما يطلب جنسا يحيط به فإن أضفته إلى جملة معرفة نحو : كل إخوتك ذاهب ، قبح إلا في الابتداء ، إلا أنه إذا كان مبتدأ وكان خبره مفردا ، تنبيها على أن أصله الإضافة للنكرة لشيوعها .

فإن لم يكن مبتدأ وأضفته إلى جملة معرفة ، نحو : ضربت كل إخوتك ، وضربت كل القوم لم يكن في الحسن بمنزلة ما قبله ، لأنك لم تضفه إلى جنس ، ولا معك في الكلام خبر مفرد يدل على معنى إضافته إلى جنس ، فإن أضفته إلى جنس معرف بالألف واللام حسن ذلك ، كقوله تعالى : فأخرجنا به من كل الثمرات ( الأعراف : 57 ) لأن الألف واللام للجنس ، ولو كانت للعهد لم يحسن لمنافاتها معنى الإحاطة .

[ ص: 276 ] ويجوز أن يؤتى بالكلام على أصله فتؤكد الكلام بـ " كل " فتقول : خذ من الثمرات كلها .

فإن قيل : فإذا استوى الأمران في قوله : كل من كل الثمرات ، وكل من الثمرات كلها ، فما الحكمة في اختصاص أحد الجائزين في نظم القرآن دون الآخر ؟

قال السهيلي في النتائج : له حكمة وهو أن " من " في الآية لبيان الجنس لا للتبعيض ، والمجرور في موضع المفعول لا في موضع الظرف ، وإنما يريد الثمرات أنفسها ؛ لأنه أخرج منها شيئا ، وأدخل من لبيان الجنس كله . ولو قال : أخرجنا به من الثمرات كلها ، لقيل : أي شيء أخرج منها ؟ وذهب التوهم إلى أن المجرور في موضع ظرف ، وأن مفعول " أخرجنا " فيما بعد ، وهذا يتوهم مع تقدم كل لعلم المخاطبين أن كلا إذا تقدمت اقتضت الإحاطة بالجنس ، وإذا تأخرت اقتضت الإحاطة بالمؤكد بتمامه ، جنسا شائعا كان أو معهودا .

وأما قوله تعالى : ثم كلي من كل الثمرات ( النحل : 69 ) ولم يقل من الثمرات كلها ، ففيه الحكمة السابقة ، وتزيد فائدة ، وهي أنه قد تقدمها في النظمومن ثمرات النخيل والأعناب ( النحل : 67 ) الآية .

فلو قال بعدها : ثم كلي من الثمرات كلها ، لأوهم أنها للعهد المذكور قبله ، فكان الابتداء بكل أحضر للمعنى ، وأجمع للجنس ، وأرفع للبس .

وأما المقطوع عن الإضافة ، فقال السهيلي : حقها أن تكون مبتدأة مخبرا عنها ، أو مبتدأة منصوبة بفعل بعدها لا قبلها ، أو مجرورة يتعلق خافضها بما بعدها ، كقولك : كلا ضربت وبكل مررت . فلا بد من مذكورين قبلها ؛ لأنه إن لم يذكر قبلها جملة ، ولا أضيفت إلى جملة بطل معنى الإحاطة فيها ، ولم يعقل لها معنى .

واعلم أن لفظ كل لأفراد التذكير ، ومعناه بحسب ما يضاف إليه ، والأحوال ثلاثة :

[ ص: 277 ] ( الأول ) : أن يضاف إلى نكرة فيجب مراعاة معناها ، فلذلك جاء الضمير مفردا مذكرا في قوله تعالى : وكل شيء فعلوه في الزبر ( القمر : 52 ) ، وكل إنسان ألزمناه ( الإسراء : 13 ) ومفردا مؤنثا في قوله : كل نفس بما كسبت رهينة ( المدثر : 38 ) ، كل نفس ذائقة الموت ( آل عمران : 185 ) . ومجموعا مذكرا في قوله : كل حزب بما لديهم فرحون ( المؤمنون : 53 ) في معنى الجمع ؛ لأنه اسم جمع .

وما ذكرناه من وجوب مراعاة المعنى مع النكرة دون لفظ كل ، قد أوردوا عليه نحو قوله تعالى : وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ( غافر : 5 ) وقوله : وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ( الحج : 27 ) وقوله : وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ( الصافات : 7 - 8 ) . وأجيب بأن الجمع في الأولى باعتبار معنى الآية ، وكذلك في الثانية فإن الضامر اسم جمع كالجامل والباقر .

وكذلك في الثالثة إنما عاد الضمير إلى الجمع المستفاد من الكلام ، فلا يلزم عوده إلى كل .

وزعم الشيخ أثير الدين في تفسيره أن قوله تعالى : ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله ( الجاثية : 7 - 8 ) ، ثم قال : أولئك لهم عذاب مهين ( الجاثية : 9 ) أنه مما روعي فيه المعنى بهذا اللفظ .

وليس كذلك ، فإن الضمير لم يعد إلى كل بل على الأفاكين الدالة عليه كل أفاك وأيضا فهاتان جملتان والكلام في الجملة الواحدة .

( الثاني ) : أن تضاف إلى معرفة ، فيجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها ، سواء كانت الإضافة [ ص: 278 ] لفظا ، نحو : وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ( مريم : 95 ) فراعى لفظ كل . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ولم يقل راعون ولا مسئولون .

أو معنى ، نحو : فكلا أخذنا بذنبه ( العنكبوت : 40 ) ، فراعى لفظها ، وقال : وكل أتوه داخرين ( النمل : 87 ) فراعى المعنى .

وقد اجتمع مراعاة اللفظ والمعنى في قوله تعالى : إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ( مريم : 93 إلى 95 ) هذا إذا جعلنا " من " موصولة وهو الظاهر ، فإن جعلناها نكرة موصوفة خرجت من هذا القسم إلى الأول .

( الثالث ) : أن تقطع عن الإضافة لفظا ، فيجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها أيضا .

فمن الأول : كل آمن بالله ( البقرة : 285 ) قل كل يعمل على شاكلته ( الإسراء : 84 ) إن كل إلا كذب الرسل ( ص : 14 ) ولم يقل كذبوا فكلا أخذنا بذنبه ( العنكبوت : 40 ) .

ومن الثاني : وكل كانوا ظالمين ( الأنفال : 54 ) كل في فلك يسبحون ( الأنبياء : 33 ) كل له قانتون ( الروم : 26 ) وكل أتوه داخرين ( النمل : 87 ) .

قال أبو الفتح : وعلته أن أحد الجمعين عندهم كاف عن صاحبه ، فإن لفظ كل للأفراد ومعناها الجمع ، وهذا يدل على أنهم قدروا المضاف إليه المحذوف في الموضعين [ ص: 279 ] جمعا فتارة روعي كما إذا صرح به ، وتارة روعي لفظ كل ، وتكون حالة الحذف مخالفة لحال الإثبات .

قيل : ولو قال قائل : حيث أفرد يقدر الحذف مفردا ، وحيث جمع يقدر جمعا ، فيقدر في قوله : فكلا أخذنا بذنبه ( العنكبوت : 40 ) كل واحد ، ويقدر في قوله : وكل أتوه داخرين ( النمل : 87 ) كل نوع مما سبق لكان موافقا إذا أضيف لفظا إلى نكرة .

وما ذكروه يقتضي أن تقديره : وكلهم أتوه وكلا التقديرين سائغ ، والمراد الجمع .

ويتعين في قوله تعالى : كل في فلك يسبحون ( الأنبياء : 33 ) أن كلا من الشمس والقمر والليل والنهار لا يصح وصفه بالجمع ، وقد قدر الزمخشري : كل يعمل على شاكلته ( الإسراء : 84 ) كل أحد ، وهو يساعد ما ذكرناه . وما ذكرناه في هذه الحالة هو المشهور .

وقال السهيلي في نتاج الفكر : إذا قطعت " كل " عن الإضافة ، فيجب أن يكون خبرها جمعا ، لأنها اسم في معنى الجمع ، تقول : كل ذاهبون ، إذا تقدم ذكر قوم ، وأجاب عن إفراد الخبر في الآيات السابقة ، بأن فيها قرينة تقتضي تحسين المعنى بهذا اللفظ دون غيره .

أما قوله : كل يعمل على شاكلته ( الإسراء : 84 ) فلأن قبلها ذكر فريقين مختلفين ، مؤمنين وظالمين ، فلو جمعهم في الأخبار وقال : كل يعملون ، لبطل معنى الاختلاف ، وكان لفظ الإفراد أدل على المراد ، والمعنى كل فريق يعمل على شاكلته .

وأما قوله : إن كل إلا كذب الرسل ( ص : 14 ) فلأنه ذكر قرونا وأمما ، وختم ذكرهم بقوم تبع ، فلو قال : كل كذبوا ، لعاد إلى أقرب مذكور ، فكان يتوهم أن الإخبار عن قوم تبع خاصة ، فلما قال : إن كل إلا كذب علم أنه يريد كل فريق منهم كذب ، لأن إفراد الخبر عن " كل " حيث وقع إنما يدل على هذا المعنى .

[ ص: 280 ] ( مسألة )

وتتصل ما بكل ، نحو : كلما رزقوا منها ( البقرة : 25 ) وهي مصدرية لكنها نائبة بصلتها عن ظرف زمان ، كما ينوب عنه المصدر الصريح ، والمعنى كل وقت .

وهذه تسمى ما المصدرية الظرفية أي النائبة عن الظرف ، لا أنها ظرف في نفسها ، فـ " كل " من " كلما " منصوب على الظرفية لإضافته إلى شيء هو قائم مقام الظرف .

ثم ذكر الفقهاء والأصوليون أن كلما للتكرار . قال الشيخ أبو حيان : وإنما ذلك من عموم " ما " لأن الظرفية مراد بها العموم ، فإذا قلت : أصحبك ما ذر لله شارق ، فإنما تريد العموم ، فكل أكدت العموم الذي أفادته ما الظرفية ، لا أن لفظ كلما وضع للتكرار كما يدل عليه كلامهم ، وإنما جاءت " كل " توكيدا للعموم المستفاد من " ما " الظرفية . انتهى .

وقوله : إن التكرار من عموم " ما " ممنوع ، فإن ما المصدرية لا عموم لها ، ولا يلزم من نيابتها عن الظرف دلالتها على العموم ، وإن استفيد عموم في مثل هذا الكلام فليس من " ما " ، إنما هو من التركيب نفسه .

وذكر بعض الأصوليين أنها إذا وصلت " بما " صارت أداة لتكرار الأفعال وعمومها قصدي وفي الأسماء ضمني . قال تعالى : كلما نضجت جلودهم ( النساء : 56 ) وإذا جردت من لفظ ( ما ) ، انعكس الحكم وصارت عامة في الأسماء قصدا ، وفي الأفعال ضمنا .

ويظهر الفرق بينهما في قوله : كل امرأة أتزوجها فهي طالق : تطلق كل امرأة يتزوجها ، وتكون عامة في جميع النساء لدخولها على الاسم وهو قصدي ، ولو تزوج امرأة ثم تزوجها مرة أخرى لم تطلق في الثانية ، لعدم عمومها قصدا في الأسماء ، ولو قال : كلما تزوجت امرأة فهي طالق فتزوج امرأة مرارا طلقت في كل مرة لاقتضائها عموم الأفعال قصدا ، وهو التزوج .

[ ص: 281 ] ( مسألة ) : ويأتي كل صفة ، ذكره سيبويه في باب النعت قال : ومن الصفة أنت الرجل كل الرجل ، ومررت بالرجل كل الرجل .

قال الصفار : هذا يكون عند قصد التأكيد والمبالغة ، فإن قولك : الرجل معناه الكامل ، ومعنى كل الرجل أي هو الرجل ، لعظمته قد قام مقام الجنس ، كما تقول : أكلت شاة كل شاة ، وإليه أشار بقوله صلى الله عليه وسلم : كل الصيد في جوف الفرا أي أن من صاده فقد صاد جميع الصيد لقيامه مقامه لعظمته ، قال : وهذا إنما يجوز إذا سبقها ما فيه رائحة الصفة كما ذكرنا ، فلو كان جامدا لم يجز ، نحو : مررت بعبد الله ، كل الرجل ، لا يفهم من عبد الله شيء .

التالي السابق


الخدمات العلمية