من الله تعالى واجبتان ، وإن كانتا رجاء وطمعا في كلام المخلوقين ، لأن الخلق هم الذين تعرض لهم الشكوك والظنون ، والبارئ منزه عن ذلك . والوجه في استعمال هذه الألفاظ أن الأمور الممكنة لما كان الخلق يشكون فيها ، ولا يقطعون على الكائن منها ، وكان الله تعالى يعلم الكائن منها على الصحة صارت لها نسبتان : عسى ولعل .
نسبة إلى الله تعالى تسمى نسبة قطع ويقين ، ونسبة إلى المخلوق وتسمى نسبة شك وظن ، فصارت هذه الألفاظ لذلك ترد تارة بلفظ القطع بحسب ما هي عليه عند الله ، كقوله : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) ( المائدة : 54 ) .
وتارة بلفظ الشك بحسب ما هي عليه عند المخلوقين كقوله : ( فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده ) ( المائدة : 52 ) ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) ( الإسراء : 79 ) .
وقوله : ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) ( طه : 44 ) وقد علم الله حين [ ص: 141 ] أرسلهما ما يفضي إليه حال فرعون ، لكن ورد اللفظ بصورة ما يختلج في نفس موسى وهارون من الرجاء والطمع ، فكأنه قال : انهضا إليه وقولا في نفوسكما لعله يتذكر أو يخشى .
ولما كان القرآن قد نزل بلغة العرب جاء على مذاهبهم في ذلك ، والعرب قد تخرج الكلام المتيقن في صورة المشكوك لأغراض فتقول : لا تتعرض لما يسخطني ، فلعلك إن تفعل ذلك ستندم ، وإنما مراده أنه يندم لا محالة ، ولكنه أخرجه مخرج الشك تحريرا للمعنى ، ومبالغة فيه ، أي أن هذا الأمر لو كان مشكوكا فيه لم يجب أن تتعرض له ، فكيف وهو كائن لا شك فيه .
وبنحو من هذا فسر قوله تعالى : ( الزجاج ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) ( الحجر : 2 ) . وأما قوله : ( لعلي أبلغ الأسباب ) ( غافر : 36 ) فاطلاعه إلى الإله مستحيل ، فبجهله اعتقد في المستحيل الإمكان ، لأنه يعتقد في الإله الجسمية والمكان .
ونص في " لعل " جواز استعمالها في المستحيل محتجا بقوله : ابن الدهان
لعل زمانا تولى يعود
.وقال أيضا : كل ما وقع في القرآن من عسى فاعلها الله تعالى فهي واجبة . وقال قوم : إلا في موضعين ، قال تعالى : ( عسى ربه إن طلقكن ) ( التحريم : 5 ) ولم يطلقهن ولم يبدل بهن . وقوله : ( عسى ربكم أن يرحمكم ) ( الإسراء : 8 ) وهذه في بنى النضير ، وقد سباهم النبي صلى الله عليه وسلم وقتلهم وأبادهم .
وقال أيضا : وهذا عندي متأول ، لأن الأول تقديره : " إن طلقكن يبدله " وما [ ص: 142 ] فعل ، فهذا شرط يقع فيه الجزاء ولم يفعله ، والثاني تقديره : " إن عدتم رحمكم " وهم أصروا ، وعسى على بابها . ( قال ) : وعسى ماضي اللفظ والمعنى ، لأنه طمع وقد يحصل في شيء مستقبل . وقال قوم : ماضي اللفظ مستقبل في المعنى ، لأنه أخبر عن طمع يريد أن يقع .
واعلم أن عسى تستعمل في القرآن على وجهين :
- ( أحدهما ) ترفع اسما صريحا ويؤتى بعده بخبر ، ويلزم كونه فعلا مضارعا ، نحو : عسى زيد أن يقوم ، فلا يجوز قائما ، لأن اسم الفاعل لا يدل على الزمان الماضي ، قال الله تعالى : ( فعسى الله أن يأتي بالفتح ) ( المائدة : 52 ) فيكون " أن والفعل " في موضع نصب بعسى . وقال الكوفيون : في موضع رفع بدل ، ورد بأنه لا يجوز تركه ، ويجوز تقديمه عليه .
- ( الثاني ) أن يكون المرفوع بها " أن والفعل " ، وهو عسى أن يقوم زيد ، فلا يفتقر هنا إلى منصوب ; لأن المرفوع بها و " أن " في المعنى اسم واحد . ونظيره : ( وحسبوا ألا تكون فتنة ) ( المائدة : 71 ) . ومنه قوله تعالى : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) ( الإسراء : 79 ) لا يجوز رفع " ربك " بـ " عسى " ، لئلا يلزم الفصل بين الصلة والموصول بالأجنبي ، وهو " ربك " لأن " مقاما محمودا " منصوب بـ " يبعثك " .
وكذلك كقوله : ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) ( البقرة : 216 ) لأن الضميرين متصلان بـ " تكرهوا " و " تحبوا " ، فلا يكون في " عسى " ضمير ، و ( أن ينفعنا ) ( القصص : 9 ) في موضع رفع ، ويجوز أن يكون على لغة من قال : " حسبت أن يفعل " ، فيكون فيها ضمير يعود على موسى و " أن ينفعنا " في موضع نصب