السبب الثالث : العداوة ، فلا تقبل ، والعداوة التي ترد بها الشهادة أن تبلغ حدا يتمنى زوال نعمته ، ويفرح لمصيبته ، ويحزن لمسرته ، وذلك قد يكون من الجانبين ، وقد يكون من أحدهما ، فيخص برد شهادته على الآخر . وإن أفضت الشهادة إلى ارتكاب ما يفسق به ، ردت شهادته على الإطلاق . ولو عادى من يريد أن يشهد عليه ، وبالغ في خصومته ، فلم يجبه ، وسكت عنه ، ثم شهد عليه ، قبلت شهادته ، لأنا لو لم نقبلها لاتخذ الخصوم ذلك ذريعة إلى إسقاط الشهادة . هكذا حكاه شهادة عدو على عدوه الروياني عن القفال ، وذكره جماعة ، منهم البغوي في كتاب اللعان أن شهادة المقذوف على قاذفه قبل طلب [ ص: 238 ] الحد مقبولة ، وبعده لا تقبل ، لظهور العداوة ، وأنه لو شهد بعد الطلب ، ثم عفا وأعاد تلك الشهادة ، لم تقبل كالفاسق إذا شهد ، ثم تاب وأعاد تلك الشهادة ، وأنه لو شهد قبل الطلب ، ثم طلب قبل الحكم ، لم يحكم بشهادته ، كما لو فسق الشاهد قبل الحكم ، لكن في تعليق الشيخ أبي حامد وغيره أن - رحمه الله - صور العداوة الموجبة للرد فيما إذا قذف رجل رجلا ، أو ادعى عليه أنه قطع الطريق عليه ، وأخذ ماله ، فيقال : يصيران عدوين ، فلا تقبل شهادة أحدهما على الآخر ، فاكتفى بالقذف دليلا على العداوة ، ولم يتعرض لطلب الحد ، قال الشافعي الروياني : لعل القفال أراد غير صورة القذف ، ثم على ما ذكره البغوي الحكم غير منوط بأن يطلب المقذوف الحد ، بل بأن يظهر العداوة ، ولا شك أنه لو شهد على رجل ، فقذفه المشهود عليه ، لم يمنع ذلك من الحكم بشهادته ، نص عليه .
فرع
العداوات الدينية لا توجب رد الشهادة ، بل يقبل للمسلم على الكافر والسني على المبتدع ، وكذا من أبغض الفاسق لفسقه لا ترد شهادته عليه . ولو قال عالم ناقد : لا تسمعوا الحديث من فلان ، فإنه مخلط ، أو لا تستفتوه ، فإنه لا يعرف الفتوى ، لم ترد شهادته ؛ لأن هذا نصيحة للناس ، نص عليه .
فرع
تقبل إذ لا تهمة . شهادة العدو لعدوه
فرع
العصبية أن يبغض الرجل لكونه من بني فلان ، فإن انضم إليها [ ص: 239 ] دعاء الناس ، وتآلفهم للإضرار به والوقيعة فيه ، اقتضى رد شهادته عليه ، ومجرد هذا لا يقتضيه ، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه وعترته ، فتقبل شهادته لهم ، وشهادتهم له ، وتقبل شهادته لصديقه وأخيه وإن كان يصله ويبره .
فرع
في . جمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة ، لكن اشتهر عن شهادة المبتدع - رضي الله عنه - تكفير الذين ينفون علم الله - تعالى - بالمعدوم ، ويقولون : ما يعلم الأشياء حتى يخلقها ، ونقل العراقيون عنه تكفير الناهين للرؤية والقائلين بخلق القرآن ، وتأوله الإمام ، فقال : ظني أنه ناظر بعضهم ، فألزمه الكفر في الحجاج ، فقيل : إنه كفرهم . الشافعي
قلت : أما تكفير منكري العلم بالمعدوم أو بالجزئيات ، فلا شك فيه ، وأما من نفى الرؤية أو قال بخلق القرآن ، فالمختار تأويله ، وسننقل - إن شاء الله تعالى - عن نصه في الأم ما يؤيده ، وهذا التأويل الذي ذكره الإمام حسن ، وقد تأوله الإمام الحافظ الفقيه الأصولي - رضي الله عنه - وآخرون تأويلات متعارضة ، على أنه ليس المراد بالكفر الإخراج من الملة ، وتحتم الخلود في النار . وهكذا تأولوا ما جاء عن جماعة من السلف من إطلاق هذا اللفظ ، واستدلوا بأنهم لم يلحقوهم بالكفار في الإرث والأنكحة ، ووجوب قتلهم وقتالهم وغير ذلك . والله أعلم . أبو بكر البيهقي
ثم من كفر من أهل البدع لا تقبل شهادته ، وأما من لا يكفره من أهل البدع والأهواء ، فقد نص - رحمه الله - في " الأم " و " المختصر " على قبول شهادتهم إلا الشافعي الخطابية وهم قوم يرون جواز [ ص: 240 ] شهادة أحدهم لصاحبه إذا سمعه يقول : لي على فلان كذا ، فيصدقه بيمين أو غيرها ، ويشهد له اعتمادا على أنه لا يكذب هذا نصه . وللأصحاب فيه ثلاث فرق : فرقة جرت على ظاهر نصه ، وقبلت شهادة جميعهم ، وهذه طريقة الجمهور ، منهم ، ابن القاص ، والقضاة وابن أبي هريرة ، ابن كج وأبو الطيب ، ، واستدلوا بأنهم مصيبون في زعمهم ولم يظهر منهم ما يسقط الثقة بقولهم ، وقبل هؤلاء شهادة من سب الصحابة والسلف - رضي الله عنهم - ؛ لأنه تقدم عليه عن اعتقاد لا عن عداوة وعناد ، قالوا : ولو شهد خطابي وذكر في شهادته ما يقطع احتمال الاعتماد على قول المدعي بأن قال : سمعت فلانا يقر بكذا لفلان ، أو رأيته أقرضه ، قبلت شهادته . والروياني
وفرقة منهم ومن تابعه حملوا النص على المخالفين في الفروع ، وردوا شهادة أهل الأهواء كلهم ، وقالوا : هم بالرد أولى من الفسقة . وفرقة ثالثة توسطوا ، فردوا شهادة بعضهم دون بعض ، فقال الشيخ أبو حامد أبو إسحاق : من أنكر إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - ، ردت شهادته لمخالفته الإجماع ، ومن فضل عليا على أبي بكر - رضي الله عنهما - لم ترد شهادته ، ورد الشيخ أبو محمد شهادة الذين يسبون الصحابة ، ويقذفون عائشة - رضي الله عنها - ، فإنها محصنة كما نطق به القرآن ، وعلى هذا جرى الإمام والغزالي والبغوي ، وهو حسن . وفي " الرقم " أن شهادة الخوارج مردودة لتكفيرهم أهل القبلة .
قلت : الصواب ما قالته الفرقة الأولى وهو قبول شهادة الجميع ، فقد قال - رحمه الله - في " الأم " : ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث إلى أمور تباينوا فيها تباينا شديدا ، واستحل بعضهم [ ص: 241 ] من بعض ما تطول حكايته ، وكان ذلك متقادما ، منه ما كان في عهد السلف إلى اليوم ، فلم نعلم أحدا من سلف الأمة يقتدى به ، ولا من بعدهم ( من ) التابعين رد شهادة أحد بتأويل ، وإن خطأه وضلله ، ورآه استحل ما حرم الله - تعالى - عليه ، فلا ترد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله ، وإن بلغ فيه استحلال المال والدم . هذا نصه بحروفه وفيه التصريح بما ذكرنا ، وبيان ما ذكرناه في تأويل تكفير القائل بخلق القرآن ، ولكن قاذف الشافعي عائشة ( رضي الله عنها ) كافر ، فلا تقبل شهادته . ولنا وجه ( أن ) الخطابي لا تقبل شهادته وإن بين ما يقطع ، لاحتمال اعتماده ، وقول صاحبه . والله أعلم .