الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      التفسير:

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس ، وغيره: كانت في الغنائم يوم بدر قطيفة حمراء، ففقدت، فقال بعض الناس: لعل النبي صلى الله عليه وسلم أخذها، فنزل: (وما كان لنبي أن يغل) .

                                                                                                                                                                                                                                      الضحاك : لم يقسم النبي عليه الصلاة والسلام للطلائع، فعرفه الله تعالى وجه الحكم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هو أمر من الله تعالى لنبيه بتبليغ جميع الوحي، هذا على قراءة من قرأ: [ ص: 154 ] (يغل) ، ومن قرأ: (يغل) ; جاز أن يكون المعنى: (يوجد غالا) ، أو: (ينسب إلى الغلول) ، أو يكون من (أغللته) ; إذا أخذت شيئا من المغنم بغير إذنه; إذا حاز الغنيمة.

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن : معنى (يغل) : يخان، ووجه اختصاص النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، ولا ينبغي أن يخان نبي ولا غيره; التعظيم لخيانته، وأن أمر الغنائم إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل الغلول: من الغلل; وهو دخول الماء في خلل الشجر; فالخيانة تكون في خفاء، من غير وجه الواجب، كالغلل.

                                                                                                                                                                                                                                      (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) قيل: يأتي به حامله على ظهره، عن ابن عباس وغيره، وروي معناه عن النبي عليه الصلاة والسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله) : الحسن ، والضحاك : المعنى: أفمن لم يغل كمن غل؟ الزجاج : المعنى: أفمن اتبع رضوان الله بالجهاد في سبيله كمن باء بسخط من الله بالفرار منه رغبة عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 155 ] وقيل: هو عام في الطاعات والمعاصي.

                                                                                                                                                                                                                                      (هم درجات عند الله) : قال مجاهد : معناه: لهم درجات.

                                                                                                                                                                                                                                      غيره: هم ذوو درجات، ومعناه: أن الجنة طبقات، والنار أدراك; فأهلها مختلفون في الدرجات.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: يراد به: اختلاف مرتبتي أهل الجنة وأهل النار; بما لهؤلاء من الثواب، وما لهؤلاء من العقاب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المراد: من اتبع رضوان الله خاصة، أخبر أن منازلهم في الجنة متفاضلة بقدر أعمالهم.

                                                                                                                                                                                                                                      (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) الآية:

                                                                                                                                                                                                                                      معنى كون الرسول منهم: ليعرفوا حاله، ولا يخفى عليهم طريقته، وقيل: ليشرفهم به، وقيل: ليسهل عليهم التعلم منه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (أولما أصابتكم مصيبة) إلى قوله: (قل هو من عند أنفسكم) يعني: أنهم قتلوا يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين، وأصيب منهم يوم أحد سبعون.

                                                                                                                                                                                                                                      (قلتم أنى هذا) : أي: من أين هذا ونحن نقاتل في سبيل الله؟(قل هو من عند أنفسكم) يعني: مخالفة الرماة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال قتادة ، والربيع بن أنس : يعني: سؤالهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يخرج بعد أن أراد الإقامة بالمدينة، وتأولها في الرؤيا التي رآها درعا حصينة.

                                                                                                                                                                                                                                      علي رضي الله عنه: هو اختيارهم الفداء يوم بدر على القتل، وقد قيل لهم: إن فاديتم الأسرى; قتل منكم على عدتهم، فمعنى (من عند أنفسكم) على القولين [ ص: 156 ] الأولين: بذنوبكم، وعلى القول الأخير: باختياركم.

                                                                                                                                                                                                                                      (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله) : دخلت الفاء; لأن خبر (ما) التي بمعنى (الذي) يشبه جواب الجزاء; من حيث كان متعلقا بالفعل في الصلة، كتعلقه بالفعل في الشرط.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: (قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) : قال السدي ، وابن جريج :

                                                                                                                                                                                                                                      المعنى: إن لم تقاتلوا معنا; فكثروا سوادنا.

                                                                                                                                                                                                                                      (قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم) أي: لو علمنا أنه يكون بينكم وبينهم قتال; لاتبعناكم، وقائل ذلك فيما روي عبد الله بن أبي، والذي قال لهم: (تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) : عبد الله بن عمرو بن حرام.

                                                                                                                                                                                                                                      (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) يعني: بما أظهروه، وكانوا قبل أن يظهروا ذلك في ظاهر أحوالهم إلى الإيمان أقرب.

                                                                                                                                                                                                                                      (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) : تأكيد; إذ قد يخبر بالقول عن الاعتقاد وغيره.

                                                                                                                                                                                                                                      (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا) يعني: عبد الله بن أبي وأصحابه; إذ قالوا: لو أطاعنا من قتل يوم أحد; ما قتلوا، فقال لهم الله تعالى: (فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) أي: تجنبوا الأسباب التي فيها الهلاك (إن كنتم صادقين) : [ ص: 157 ] في أنكم تعرفونها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (بل أحياء عند ربهم يرزقون) أي: هم حيث يعلمهم ربهم دون الناس، وليس (عند) على معنى قرب المسافة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة ، وابن جريج : أي: يقولون: ليت إخواننا يقتلون كما قتلنا، فيصيبون من الثواب ما أصبنا.

                                                                                                                                                                                                                                      السدي : يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه، فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا.

                                                                                                                                                                                                                                      (يستبشرون بنعمة من الله وفضل) : (الفضل) : داخل في النعمة، وفيه دليل على اتساعها، وأنها ليست كنعيم الدنيا، وقيل: جاء الفضل بعد النعمة على وجه التأكيد.

                                                                                                                                                                                                                                      (وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) أي: ويستبشرون بأن الله.

                                                                                                                                                                                                                                      (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح) : ابن عباس ، وغيره: رجع المشركون يوم أحد من الروحاء إلى حمراء الأسد، مؤملين الرجوع إلى المسلمين، فدعا النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه إلى الخروج، فأجابوه فخرج بهم إلى حمراء الأسد; وهي ثمانية أميال من المدينة، وألقى الله الرعب في [ ص: 158 ] قلوب المشركين، فانهزموا من غير قتال، وكان خروجه عليه الصلاة والسلام إلى حمراء الأسد يوم الأحد ثاني يوم أحد.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي: أن الآية نزلت في رجلين من بني عبد الأشهل، كانا مثخنين جراحا، فتوكأ أحدهما على صاحبه، وخرجا مع النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      (الذين قال لهم الناس) : قال الواقدي، وغيره: (الناس) ههنا: نعيم بن مسعود الأشجعي، لقي المسلمين وهم متوجهون إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان في سنة أربع - وكانت أحد في سنة ثلاث - فقال لهم: إن الناس قد جمعوا لكم; يعني: أبا سفيان وأصحابه.

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك قال مجاهد : كان ذلك في بدر الصغرى.

                                                                                                                                                                                                                                      السدي : هو أعرابي ضمن له جعل على ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس ، وقتادة : هم ركب دسهم أبو سفيان وأصحابه; ليثبطوا المسلمين عن اتباعهم يوم أحد حين أرادوا الرجوع إليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) قيل: يعني: انقلابهم من حمراء الأسد ثاني يوم أحد، وقيل: يعني: انقلابهم من بدر الصغرى وقد باعوا وابتاعوا، ولم يلقوا حربا; فـ (النعمة) : كفاية عدوهم، و (الفضل) : ربحهم في متاجرهم. [ ص: 159 ]

                                                                                                                                                                                                                                      (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) : قال ابن عباس ، وغيره: المعنى: يخوفكم أولياءه; أي: يخوف المؤمن بالكافر.

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن ، والسدي : المعنى: يخوف أولياءه المنافقين; ليقعدوا عن قتال المشركين.

                                                                                                                                                                                                                                      (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) قال مجاهد : يعني: المنافقين، وقيل: الذين ارتدوا عن الإسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم) الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      (الإملاء) : طول المدة، والمعنى: إنما نطول أعمارهم; ليعملوا بالمعاصي، لا لأنه خير لهم.

                                                                                                                                                                                                                                      (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) : قال مجاهد ، وابن جريج : أي: المنافق من المؤمن.

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة ، والسدي : الكافر من المؤمن.

                                                                                                                                                                                                                                      (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) أي: ليخبركم من يسلم، ومن يموت على الكفر.

                                                                                                                                                                                                                                      قال السدي : قال المشركون: إن كان محمد صادقا; فليخبرنا من يؤمن ومن يكفر; فنزلت الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      المعنى: ولا تحسبن بخل الذين يبخلون، فـ (هو) : فاصلة، وأضمر [ ص: 160 ] (البخل) ، وتقدير قراءة الياء والتاء مذكور فيما بعد .

                                                                                                                                                                                                                                      السدي : المراد بـ(البخل) في الآية: بخلهم في الإنفاق في سبيل الله، ومنعهم الزكاة.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس : بخل أهل الكتاب بما عندهم من ذكر النبي عليه الصلاة والسلام وصفته.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الخبر عن النبي عليه الصلاة والسلام: "ما من رجل له مال، ثم بخل بالحق في ماله; إلا طوقه الله يوم القيامة شجاعا أقرع"، ثم تلا الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      (ولله ميراث السماوات والأرض) : جاء على ما تعرفه العرب، وليس على حد انتقال الأملاك بين المخلوقين; لأن الله عز وجل لم يزل مالكا للأشياء كلها.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية