الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        المسألة الثانية : حلف لا يشتري أو لا يبيع ، فوكل من باع واشترى له ، أو لا يضرب عبده ، فأمر من ضربه ، أو حلف الأمير أو القاضي : لا يضرب ، فأمر الجلاد فضرب ، لم يحنث ، وذكر الربيع أن الحالف إن كان ممن لا يتولى البيع والشراء ، أو الضرب بنفسه كالسلطان ، أو كان الفعل المحلوف عليه لا يعتاد الحالف فعله ، أو لا يجيء منه ، كالبناء والتطيين ، حنث إذا أمر به . فمنهم من جعل هذا قولا آخر ، وأثبت قولين ، والمذهب القطع بأنه لا يحنث ، والامتناع من جعله قولا ، ولو حلف : لا يزوج ، أو لا يطلق ، أو لا يعتق ، فوكل وعقد الوكيل ، فكالتوكيل في البيع . ولو فوض الطلاق إلى زوجته ، فطلقت نفسها ، لم يحنث على المذهب . وحكي قول أنه يحنث هنا وإن لم يحنث في التوكيل ، لأنه فوضه إلى من لا يملكه ، وكأنه هو المطلق . فلو قال : إن فعلت كذا ، أو إن شئت ، فأنت طالق ، ففعلت ، أو شاءت ، حنث ، لأن الموجود منها مجرد صفة ، وهو المطلق . ولو حلف : لا يتزوج ، أو لا ينكح ، فوكل من قبل له نكاح امرأة ، فهل يحنث ؟ وجهان حكاهما [ ص: 48 ] المتولي . أحدهما : لا ، كالبيع ، وبه قطع الصيدلاني ، والغزالي . والثاني : نعم ، لأن الوكيل هنا سفير محض ، ولهذا يجب تسمية الموكل ، وبه قطع البغوي . ولو قبل لغيره نكاحا ، فمقتضى الوجه الأول الحنث ، ومقتضى الثاني المنع . ولو حلف : لا يبيع ولا يشتري ، فوكل لغيره فيهما ، حنث على الأصح ، وهو الذي أطلقه جماعة ، وقيل : لا يحنث ، وقيل : إن صرح بالإضافة إلى الموكل ، لم يحنث ، وإن نواه ولم يصرح ، حنث . ولو قال : لا أكلم عبدا اشتراه زيد ، لم يحنث بتكليم عبد اشتراه وكيله . ولو قال : لا أكلم امرأة تزوجها زيد ، فكلم من تزوجها لزيد وكيله ، ففيه الوجهان ، فيما لو حلف : لا يتزوج ، فتزوج وكيله له . ولو حلف : لا يكلم زوجة زيد ، حنث بتكليم من تزوجها بنفسه أو بوكيله بلا خلاف .

                                                                                                                                                                        واعلم أن كل هذه الصور فيمن أطلق ولم ينو ، فأما إن نوى أن لا يفعل ولا يفعل بإذنه ، أو لا يفعل ولا يأمر به ، فيحنث إذا أمر به ففعل ، هكذا أطلقوه مع قولهم : إن اللفظ حقيقة لفعل نفسه ، واستعماله في المعنى الآخر مجاز . وفي هذا استعمال اللفظ في الحقيقة والمجاز جميعا ، وهو بعيد عند أهل الأصول ، والأولى أن يؤخذ معنى مشترك بين الحقيقة والمجاز جميعا ، فيقال : إذا نوى أن لا يسعى في تحقيق ذلك الفعل ، حنث بمباشرته ، وبالأمر به ، لشمول المعنى وإرادة هذا المعنى إرادة المجاز فقط .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الذي ذكره الرافعي حسن ، والأول صحيح على مذهب الشافعي ، وجمهور أصحابنا المتقدمين في جواز إرادة الحقيقة والمجاز بلفظ واحد . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        [ ص: 49 ] فرع

                                                                                                                                                                        حلف : لا يحلق رأسه ، فأمر غيره ، فحلقه ، فقيل : يحنث للعرف . وقيل : فيه الخلاف ، كالبيع . ولو حلف : لا يبيع من زيد ، فباع من وكيله ، أو وكل من باع من زيد ، لم يحنث . ولو حلف : لا يبيع لزيد مالا ، فباع ماله بإذنه أو بإذن الحاكم بحجر ، أو امتناع الحاكم ، حنث . وإن باع بغير إذن ، لم يحنث ، لفساد البيع . فلو وكل زيد وكيلا في بيع ماله ، وأذن له في التوكيل ، فوكل الوكيل الحالف وهو لا يعلم ، نص في الأم أنه لا يحنث ، وهو تفريع على أحد القولين في حنث الناسي . وقال المتولي : إن كان أذن لوكيله أن يوكل عنه ، حنث ، لأنه باع لزيد يعني إذا علم ، أو قلنا : يحنث الناسي ، وإن كان أذن له في التوكيل عن نفسه ، فباع ، لم يحنث ، لأنه لم يبع لزيد ، بل لوكيله وإن أطلق الإذن في التوكيل ، فعلى الخلاف في أن من يوكله وكيل الموكل ، أم وكيل الوكيل ؟ ولو قال : لا يبيع لي زيد مالا ، فوكل الحالف رجلا في البيع ، وأذن له في التوكيل ، فوكل الوكيل زيدا ، فباع ، حنث الحالف ، سواء علم زيد أم لم يعلم ، لأن اليمين منعقدة على نفي فعل زيد ، وقد فعله زيد باختياره .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية