الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      التفسير:

                                                                                                                                                                                                                                      تقدم القول في قوله: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: إنه لا يفلح الظالمون : قيل: معناه: إنه لا يفلح الظالمون في الدنيا، ثم استأنف ويوم نحشرهم جميعا ; على معنى: اذكر يوم نحشرهم، وقيل: المعنى: لا يفلح الظالمون في الدنيا ولا يوم نحشرهم جميعا; فلا يوقف على هذا التقدير على قوله: (الظالمون); لأنه متصل.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين يعني: أنهم انتفوا من الشرك حين رأوا الحقائق، وقد تقدم القول في ذلك عند قوله: ولا يكتمون الله حديثا [النساء: 42].

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إنهم إنما تبرءوا من الشرك حين رأوا أن الله يغفر الذنوب إلا الشرك.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 568 ] الحسن: هذا خاص في المنافقين، جروا على عادتهم في الدنيا.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى (فتنتهم): عاقبة فتنتهم; أي: كفرهم، قتادة: معناه: معذرتهم.

                                                                                                                                                                                                                                      (انظر كيف كذبوا على أنفسهم); أي: كيف يكذبون في الآخرة، فأخبر عنه بالماضي، على ما قدمناه من القول في مثله، وجاز أن يكذبوا في الآخرة; لأنه موضع دهش و ذهول عقول.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: لا يجوز أن يقع الكذب منهم في الآخرة; والمعنى: انظر كيف كذبوا على أنفسهم في الدنيا; فمعنى والله ربنا ما كنا مشركين على هذا: ما كنا مشركين عند أنفسنا، والنظر في قوله: (انظر) يراد به نظر الاعتبار.

                                                                                                                                                                                                                                      وضل عنهم ما كانوا يفترون ; أي: فارقهم ما كانوا يعبدون من دون الله، فلم يغن عنهم شيئا، عن الحسن، وغيره، وقيل: المعنى: غرب عنهم افتراؤهم; لدهشهم وذهول عقولهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنهم من يستمع إليك يعني: من المشركين.

                                                                                                                                                                                                                                      وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه : (الأكنة): جمع (كنان); وهو الغطاء; والمعنى: كراهة أن يفقهوه، أو لئلا يفقهوه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 569 ] وفي آذانهم وقرا : (الوقر): الثقل في الأذن،وقرت الأذن توقر، و (الوقر) بالكسر: الحمل.

                                                                                                                                                                                                                                      حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين : قال ابن عباس:

                                                                                                                                                                                                                                      يعني: أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها; أي: يكتبونها.

                                                                                                                                                                                                                                      واحدها: (أسطورة)، عن الأخفش; كـ (أحدوثة وأحاديث). الزجاج: هو جمع (أسطار); كـ (أبيات وأباييت)، و (أسطار): جمع (سطر). أبو عبيدة: واحدتها: (إسطارة); وهي الترهات.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هو جمع لا واحد له; كـ (مذاكير)، و (عباديد).

                                                                                                                                                                                                                                      ومجادلتهم التي ذكرها الله تعالى ههنا: قولهم: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟! عن ابن عباس.

                                                                                                                                                                                                                                      وهم ينهون عنه وينأون : (النهي): الزجر، و (النأي): البعد، والمراد به - فيما روي عن ابن عباس -: أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، و (الهاء): للنبي صلى الله عليه وسلم; [ ص: 570 ] والمعنى: ينهون عن أذاه، ويتباعدون عن الإيمان به، وعن ابن عباس أيضا، والحسن، وغيرهما: أنه عام لجميع الكفار، و (الهاء): للنبي صلى الله عليه وسلم; فمعنى (ينهون عنه) على هذا: ينهون عن اتباعه.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن يهلكون إلا أنفسهم أي: وبال ذلك راجع عليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولو ترى إذ وقفوا على النار الآية:

                                                                                                                                                                                                                                      وضعت (إذ) في موضع الاستقبال، على ما قدمناه من تحقيق إخبار الله تعالى، ومعنى على (النار): أنهم كانوا فوقها وهي تحتهم، وقيل: عاينوها، وقيل: دخلوها.

                                                                                                                                                                                                                                      فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين : تمنوا ذلك حين لا ينفعهم التمني، وجواب (لو) محذوف; والمعنى: لو تراهم في تلك الحال; لرأيت أسوأ حال.

                                                                                                                                                                                                                                      بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل : (بل): إضراب عن تمنيهم وادعائهم الإيمان لو ردوا; ومعنى (بدا لهم) في قول الحسن: بدا لبعضهم ما كان يخفيه بعض، وقيل: بدا لهم وبال ما كانوا يخفون من الكفر.

                                                                                                                                                                                                                                      ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه : قيل: معناه: لو ردوا قبل معاينة العذاب، وقيل: بعد معاينته.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 571 ] وقوله: وإنهم لكاذبون : معناه مذكور عند ذكر وجوه القراءات.

                                                                                                                                                                                                                                      وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا : هذا إخبار عنهم بما كانوا يقولونه في الدنيا، فهو مستأنف.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن زيد: هو داخل في قوله: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ; أي: لعادوا وقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا.

                                                                                                                                                                                                                                      ولو ترى إذ وقفوا على ربهم : جواب (لو) محذوف، لتعظيم شأن الوقوف.

                                                                                                                                                                                                                                      قال أليس هذا بالحق : تقرير وتوبيخ.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة : سميت القيامة (الساعة); لسرعة الحساب فيها، ومعنى (بغتة): فجأة.

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا يا حسرتنا : النداء للحسرة، ومعناه لغيرها; لأنه تنبيه على عظم شأنها; والمعنى: تعالي يا حسرة; فهذا وقتك وأوانك، والهاء في (فيها) تعود على (الساعة) في قول الحسن; والمعنى: على ما فرطنا في التقدمة لها.

                                                                                                                                                                                                                                      وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ; (الأوزار): الأثقال من الإثم، يقال منه:

                                                                                                                                                                                                                                      (وزر يزر)، و (وزر يوزر)، فهو (وازر وموزور).

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 572 ] وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو يعني: متاعها، لا ما فيها من أمور الآخرة، (واللعب): ما لا ينتفع به، و (اللهو): ما يلهى به.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن أصله: الصرف عن الشيء، من قولهم: (لهيت عنه)، وفيه بعد; لأن الذي معناه الصرف لامه ياء; بدليل قولهم: (لهيان)، ولام الأول واو.

                                                                                                                                                                                                                                      قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون : (قد) ههنا: للتقريب، كأنه تقريب حال الحزن من حال الخطاب، وقيل: معناها ههنا: التقليل; كأنه يقل حزنه بما يقولون; لتسلية الله تعالى إياه، والمراد به: قولهم: شاعر، وساحر، ومجنون، وشبهه.

                                                                                                                                                                                                                                      فإنهم لا يكذبونك ; أي: لا يكذبونك بحجة، قال قتادة، والسدي، وغيرهما: هو في المعاندين الذين علموا صدق النبي، صلى الله عليه وسلم وجحدوه; طلبا للرياسة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: لا يكذبونك، إنما يكذبون ما جئت به.

                                                                                                                                                                                                                                      [وقيل: المعنى: لا يعتقدون تكذيبك كما يظهرون.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 573 ] وقيل: المعنى: لا يكذبونك في الأمر الذي توافق فيه، كتبهم، وإن كذبوك في بعضه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: لا يكذبونك كلهم، وإن كذبك بعضهم، وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن خفف (يكذبونك); فمعناه: لا يجدونك كاذبا، وقيل: معناه:

                                                                                                                                                                                                                                      لا ينسبونك إلى الكذب، فيرجع إلى معنى قراءة التشديد.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كذبت رسل من قبلك الآية: هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد جاءك من نبإ المرسلين : فاعل (جاءك) مضمر; والمعنى: جاءك من نبأ المرسلين نبأ.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كان كبر عليك إعراضهم أي: إعراضهم عن الإيمان.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء : (النفق): السرب النافذ، ومنه: نافقاء اليربوع، وقد تقدم، و (السلم): المصعد، وهو مشتق من (السلامة); لأنه يسلم الصاعد فيه إلى مصعده; والمعنى: إن استطعت ذلك [ ص: 574 ] فافعله، أعلمه الله تعالى أنه لا يقدر مع بلوغ غاية جهده أن يهدي من سبق في علم الله أنه لا يهتدي.

                                                                                                                                                                                                                                      ولو شاء الله لجمعهم على الهدى أي: لأراهم من الآيات ما يضطرهم إلى الإيمان به.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: لو شاء لخلقهم مؤمنين، وهذا رد على القدرية.

                                                                                                                                                                                                                                      فلا تكونن من الجاهلين : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد: أمته.

                                                                                                                                                                                                                                      إنما يستجيب الذين يسمعون أي: يقبلون ما يسمعونه، وهذا تمام الكلام، ثم قال: (والموتى يبعثهم الله).

                                                                                                                                                                                                                                      قال مجاهد: المعنى: والكفار حين يبعثهم الله يسمعون; فـ (الموتى): الكفار.

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن: (الموتى): مثل للكفار; والمعنى: يهدي من يشاء منهم إلى الإيمان، فذلك بعثه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: (الموتى): كل من مات.

                                                                                                                                                                                                                                      وقالوا لولا نـزل عليه آية من ربه أي: هلا نزل، طلبوا نزول الآية وهم يرونها.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 575 ] الزجاج: طلبوا أن يجمعهم على الهدى; يعني: جمع إلجاء.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن أكثرهم لا يعلمون ; أي: لا يعلمون ما عليهم في إنزالها إن لم يؤمنوا بها، وقيل: لا يعلمون أن الله قادر على إنزالها.

                                                                                                                                                                                                                                      وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ; أي: من هذه قدرته يقدر على الإتيان بالآيات، وخص بالذكر ما في الأرض دون السماء; لأنه الذي يعرفونه ويعاينونه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا طائر يطير بجناحيه : تأكيد; لأن العرب تستعمل الطيران لغير الطائر مجازا.

                                                                                                                                                                                                                                      إلا أمم أمثالكم : يعني: أنه خلقهم، ودبرهم، وكتب آثارهم وآجالهم، كما فعل بكم.

                                                                                                                                                                                                                                      ما فرطنا في الكتاب من شيء ; أي: من شيء تحتاج إليه من أمور الدين والدنيا، وقيل: إنه بين في الكتاب كل شيء، ودلك عليه بدلالة مشروحة أو مجملة، و (الكتاب) على هذين القولين: القرآن، وقيل: إنه يعني به اللوح المحفوظ، فيه ما كان، وما هو كائن، قاله ابن عباس.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إلى ربهم يحشرون يعني: من يعقل، وما لا يعقل من البهائم، وقال [ ص: 576 ] ابن عباس: حشر البهائم: موتها، وقال أبو ذر، وأبو هريرة، والحسن: تحشر إلى الموقف.

                                                                                                                                                                                                                                      والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم : تمثيل، حسب ما تقدم في (البقرة) [18]. (في الظلمات); أي: ظلمات الكفر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن المعنى: صم وبكم في الآخرة، فيكون حقيقة.

                                                                                                                                                                                                                                      من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم : هذا إبطال لمذاهب القدرية، حسب ما تقدم في أمثاله.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية