الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4174 ص: فإن قال قائل: أفيجوز لمن كان بعد المواقيت إلى مكة أن يتمتع؟ قيل له: نعم وهو أيضا في ذلك خلاف أهل مكة، وهذا خلاف قول أصحابنا، ولكنه النظر عندنا على ما قد ذكرنا وبينا، وحاضرو المسجد الحرام عندنا هم أهل مكة خاصة، وقد قال بهذا القول الذي ذهبنا إليه في هذا: نافع مولى ابن عمر ، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج .

                                                [ ص: 285 ] حدثنا يونس ، قال: ثنا ابن وهب ، قال: أخبرني مخرمة بن بكير ، عن أبيه ، قال: "سمعت نافعا مولى ابن عمر يسأل عن قول الله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أجوف مكة ، أم حولها؟ قال: جوف مكة".

                                                وقال ذلك عبد الرحمن الأعرج. .

                                                التالي السابق


                                                ش: لما أثبت أن حكم أهل المواقيت حكم ما قبلها لا كحكم ما بعدها حتى لم يجوز لهم دخول مكة إلا بالإحرام كما لأهل الآفاق، وأثبت أيضا أن أهل المواضع التي بين المواقيت وبين مكة لا يدخلون مكة إلا بإحرام، ورد عليه سؤال، بيانه: أن يقال: إن التمتع عند أبي حنيفة وأصحابه ليس إلا لأهل الآفاق، وليس لأهل مكة ولا لأهل الحل الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة تمتع، وأنت حملت حكم أهل المواضع التي بين المواقيت وبين مكة كحكم ما قبل المواقيت، فعلى هذا ينبغي أن يجوز لهم أن يتمتعوا، ومع هذا لا يجوز عند أصحابك، فأجاب بقوله: نعم يجوز ذلك لهم عندي؛ لأني أخالف قول أصحابنا في هذا، وأقول: إنهم عندي خلاف أهل مكة، فإن عاد السائل وقال: كيف تقول هم خلاف أهل مكة وهم من أهل حاضري المسجد الحرام عند أصحابك؟ فالجواب أن حاضري المسجد الحرام عندي هم أهل مكة خاصة؛ لأني أختار في هذا قول نافع مولى ابن عمر وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، فإنهما قالا: حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة خاصة.

                                                وأخرجه عنهما بإسناد صحيح على شرط مسلم ، عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن مخرمة بن بكير ، عن أبيه بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن نافع ... إلى آخره.

                                                ثم اعلم أنهم اختلفوا في حاضري المسجد الحرام، فقال الجصاص: اختلف الناس في ذلك على أربعة أوجه، فقال عطاء ومكحول: من دون المواقيت إلى مكة، وهو قول أصحابنا إلا أن أصحابنا يقولون: أهل المواقيت بمنزلة من

                                                [ ص: 286 ] دونها، وقال ابن عباس ومجاهد: هم أهل الحرم، وقال الحسن وطاوس ونافع وعبد الرحمن الأعرج: أهل مكة، وهو قول مالك بن أنس، وقال الشافعي: هم من كان أهله دون ليلتين، وهو حينئذ أقرب المواقيت، وما كان وراءهم فعليهم المتعة، قال الجصاص: لما كان أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة لهم أن يدخلوها بغير إحرام وجب أن يكونوا بمنزلة أهل مكة ألا ترى أن من خرج من مكة مما لم يجاوز الميقات فله الرجوع ودخولها بغير إحرام وكان تصرفهم في الميقات فما دونه بمنزلة تصرفهم من مكة؟ فوجب أن يكونوا بمنزلة أهل مكة في حكم المتعة، ويدل على أن الحرم وما قرب منه أهله من حاضري المسجد الحرام وليس أهل مكة منهم؛ لأنهم قد كانوا أسلموا حين فتحت وإنما نزلت الآية بعد الفتح في حجة أبي بكر -رضي الله عنه- وهم بنو مدلج وبنو الديل، وكانت منازلهم خارج مكة في الحرم وما قرب منه.

                                                فإن قيل: كيف يكون أهل ذي الحليفة من حاضري المسجد الحرام وبينهم وبين مكة مسيرة عشر ليال؟

                                                قيل له: وإن لم يكونوا من حاضري المسجد الحرام فهم في حكمهم من باب جواز دخولهم مكة بغير إحرام، ومن باب أنهم متى أرادوا الإحرام أحرموا من منازلهم، كما أن أهل مكة إذا أرادوا الإحرام أحرموا من منازلهم، فيدل ذلك على أن المعنى: حاضرو المسجد الحرام ومن في حكمهم انتهى.

                                                ثم إن المكي لا يكره له التمتع ولا القران عند الشافعي ومالك وأحمد وداود، وإن تمتع لم يلزمه دم، وقال أبو حنيفة: يكره له التمتع والقران، فإن تمتع أو قرن فعليه دم جبرا، وهما في حق الآفاقي مستحبان، ويلزمه الدم شكرا.

                                                قوله: "وقد قال بهذا القول" أراد به القول بأن حاضري المسجد الحرام هم أهل مكة خاصة "نافع وعبد الرحمن الأعرج" وهو قول عطاء والحسن البصري وطاوس وسفيان وداود ومالك -في رواية-.

                                                [ ص: 287 ] وفي "المحلى" قال الشافعي: هم من كان من مكة على أربعة برد بحيث لا يقصروا الصلاة إلى مكة، وصح هذا عن عطاء، وقال مالك: هم أهل مكة وذي طوى، وقال سفيان وداود: هم أهل دور مكة فقط، وصح عن نافع مولى ابن عمر وعن الأعرج، وروينا عن طاوس وعطاء والحسن: أنهم أهل مكة، إلا أن طاوسا قال: إذا اعتمر المكي من أحد المواقيت ثم حج من عامه فعليه ما على المتمتع، وروينا من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري: حاضرو المسجد الحرام كل من كان أهله من مكة على يوم أو نحوه، وقال آخرون: هم أهل الحرم.

                                                ***




                                                الخدمات العلمية