الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4385 ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: ثم نظرت بعد ذلك في هذا الباب وفي تصحيح الآثار فيه، فإذا هي تدل على ما ذهب إليه أبو حنيفة لا على ما ذهب إليه محمد بن الحسن، وذلك أنا وجدناها على ثلاثة أنواع:

                                                فنوع منها ما روي عن رسول الله -عليه السلام-: "أنه كان يباشر نساءه وهن حيض فوق الإزار" فلم يكن في ذلك دليل على منع الحيض من المباشرة تحت الإزار لما قد ذكرناه في موضعه من هذا الباب.

                                                ونوع منها وهو ما روى عمير مولى عمر، ، عن عمر -رضي الله عنه- عن رسول الله -عليه السلام-[على] ما قد ذكرناه في موضعه، فكان في ذلك منع من جماع الحيض تحت الإزار؛ لأن ما فيه من كلام رسول الله -عليه السلام-، وذكره ما فوق الإزار فإنما هو جواب لسؤال عمر -رضي الله عنه- إياه "ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ فقال له: ما فوق الإزار" فكان ذلك جواب سؤاله لا نقصان فيه ولا تقصير.

                                                [ ص: 429 ] ونوع آخر: وهو ما روي عن أنس -رضي الله عنه- على ما قد ذكرناه عنه، فذلك نص على أنه مبيح لإتيان الحيض دون الفرج وإن كانت تحت الإزار، فأردنا أن ننظر أي هذين النوعين تأخر عن صاحبه فنجعله ناسخا له، فنظرنا في ذلك فإذا حديث أنس -رضي الله عنه- فيه إخبار عما كانت اليهود عليه، وقد كان رسول الله -عليه السلام- يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بخلافهم، قد روينا ذلك عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في كتاب الجنائز، وقد أمره الله -عز وجل- في قوله: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده فكان عليه اتباع من تقدمه من الأنبياء -عليهم السلام- حتى تحدث له شريعة تنسخ شريعته، فكان الذي نسخ ما كان اليهود عليه من اجتناب كلام الحائض ومؤاكلتها والاجتماع معها في بيت هو ما في حديث أنس -رضي الله عنه- لا واسطة بينهما، وفي حديث أنس هذا إباحة جماعها فيما دون الفرج، وكان الذي في حديث عمر -رضي الله عنه- الإباحة لما فوق الإزار والمنع مما تحت الإزار، فاستحال أن يكون ذلك متقدما لحديث أنس إذ كان حديث أنس هو الناسخ لاجتناب الاجتماع مع الحائض ومؤاكلتها ومشاربتها، وثبت أنه متأخر عنه وناسخ لبعض الذي أبيح فيه، فثبت ما ذهب إليه أبو حنيفة من هذا بتصحيح الآثار، وانتفى ما ذهب إليه محمد بن الحسن -رحمه الله-.

                                                التالي السابق


                                                ش: لما ذكر أن وجه النظر والقياس في هذا الباب اقتضى أن يكون الممنوع من الاستمتاع بالحائض موضع الدم فقط، وأشار إليه أنه اختياره، ثم لما نظر في تصحيح الأحاديث الواردة في هذا الباب تبين له أن الأمر ما ذهب إليه أبو حنيفة ومن معه لا ما ذهب إليه محمد بن الحسن ومن معه، وأشار إلى، بيان [ذلك] بقوله: "وذلك أنا وجدنا ... " إلى آخره، تقريره: أن الأحاديث الواردة في هذا الباب على ثلاثة أنواع:

                                                [ ص: 430 ] الأول: ما روي عن عائشة وميمونة -رضي الله عنهما-: "أنه كان يباشر نساءه وهن حيض فوق الإزار" فهذا لا دليل فيه على منع الحيض من المباشرة تحت الإزار؛ لما قد ذكرنا أن فعله -عليه السلام- هذا لا يستلزم عدم جواز المباشرة تحت الإزار.

                                                النوع الثاني: ما رواه عمير مولى عمر بن الخطاب ، عن عمر -رضي الله عنه- وفيه المنع من المباشرة تحت الإزار؛ لأن فيه أن عمر سأل رسول الله -عليه السلام-: ما للرجل من امرأته إذا حاضت؟ وأجاب رسول الله -عليه السلام- بقوله: "له منها ما فوق الإزار" فدل على منع ما تحت الإزار؛ إذ لو لم يدل على ذلك لم يكن الجواب مطابقا للسؤال، وأشار إلى ذلك بقوله: "فكان ذلك جواب سؤاله لا نقصان فيه ولا تقصير". أي فكان قوله -عليه السلام-: "له منها ما فوق الإزار" جواب سؤال -عمر -رضي الله عنه- حين سأله: ما للرجل من امرأته إذا حاضت؟ جوابا مطابقا لسؤاله مقنعا، لا نقصان فيه للإقناع ولا تقصير فيه للتطابق.

                                                النوع الثالث: ما رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- عنه -عليه السلام-: "اصنعوا كل شيء ما خلا الجماع " ففيه إباحة المباشرة ما فوق الإزار وما تحتها دون الفرج، وهو معنى قوله: "فذلك نص على أنه مبيح لإتيان الحيض دون الفرج وإن كان تحت الإزار".

                                                والحيض -بضم الحاء وتشديد الياء- جمع حائض.

                                                فهذه ثلاثة أقسام يجب تصحيح معانيها على وجه يقع التطابق فيها ويرتفع الخلاف، وأشار إلى ذلك بقوله: "فأردنا أن ننظر أي هذين النوعين تأخر عن صاحبه" وأراد بهما حديث عمر وحديث أنس، وإنما عين النوعين الأخيرين؛ لأن النوع الأول داخل في النوع الثالث في الحقيقة، ثم بيان ذلك أن يقال: إن بين حديثي عمر وأنس تعارضا ظاهرا على ما لا يخفى، ودفعه بأن يقال: إن حديث عمر -رضي الله عنه- ناسخ لحديث أنس -رضي الله عنه- بيان ذلك: أن حديث أنس فيه إخبار عما كانت اليهود تفعل مع الحيض، وقد كان -عليه السلام- يحب موافقة أهل الكتاب في الذي لم يؤمر فيه بخلافهم. روى ذلك ابن عباس -رضي الله عنهما- وقد ذكر ذلك في كتاب الجنائز، وأيضا فالله تعالى أمر نبينا -عليه السلام- أن يتبع من تقدمه من الأنبياء -عليهم السلام-

                                                [ ص: 431 ] والقرآن نطق به، وهو قوله تعالى: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده فأمره باتباعه لهم إلى أن يحدث له شريعة تنسخ ما أمر به من اتباعه، وقد نسخ ما في حديث أنس [ما] كانت اليهود تفعله مع الحيض بقوله -عليه السلام-: "اصنعوا كل شيء ما خلا الجماع" فهذا فيه إباحة جماعها فيما دون الفرج.

                                                وفي حديث عمر الإباحة لما فوق الإزار، والمنع مما تحت الإزار، فمن المحال أن يكون حديثه متقدما على حديث أنس؛ لأن في حديث عمر حظرا لبعض ما في حديث أنس ومحرما له، فلا شك أن المحرم متأخر عن المبيح، فهذا نسخ بدلالة التاريخ لا بعين التاريخ إذ التاريخ لم يعلم، ولكن القاعدة: أن الإباحة والحظر إذا اجتمعا فالحظر أولى، ومن أبين الدلالة على تأخر حديث عمر -رضي الله عنه- أن في حديث أنس -رضي الله عنه- نزول قوله تعالى: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى الآية. ولو كان سؤال عمر -رضي الله عنه- حال نزول الآية لاكتفى بما ذكر أنس من قوله -عليه السلام-: "اصنعوا كل شيء ما خلا الجماع" فحيث لم يكتف وسأل عما للرجل من امرأته إذا حاضت، فدل ذلك على أن سؤاله كان بعد ذلك. والله أعلم وأيضا يعضد ظاهر قوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن خبر عمر -رضي الله عنه-، وخبر أنس يوجب تخصيصه، وما يوافق القرآن من الأخبار فهو أولى مما يخصه.

                                                وأيضا إن خبر أنس مجمل تام، ليس فيه إباحة موضع بعينه، وخبر عمر -رضي الله عنه- مفسر فيه بيان لحكم الموضعين فيما تحت الإزار وما فوقه. والله أعلم.

                                                ...




                                                الخدمات العلمية