الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
قاعدة

قد يكون نحو هذا اللفظ في القرآن ، كقوله تعالى : ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) ( الأنعام : 93 ) ( فمن أظلم ممن كذب على الله ) ( الزمر : 32 ) ( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها ) ( السجدة : 22 ) ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله ) ( البقرة : 114 ) إلى غير ذلك .

والمفسرون على أن هذا الاستفهام معناه النفي فحينئذ فهو خبر ، وإذا كان خبرا فتوهم بعض الناس أنه إذا أخذت هذه الآيات على ظواهرها أدى إلى التناقض ، لأنه يقال : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، ولا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ، ولا أحد أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها .

واختلف المفسرون في الجواب عن هذا السؤال على طرق .

( أحدها ) : تخصيص كل واحد في هذه المواضع بمعنى صلته ، فكأنه قال : لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا ، وكذلك باقيها ، وإذا تخصص بالصلات زال عنه التناقض .

( الثاني ) أن التخصيص بالنسبة إلى السبق لما لم يسبق أحد إلى مثله ، حكم عليهم [ ص: 66 ] بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكا طريقتهم ، وهذا يئول معناه إلى السبق في المانعية ، والافترائية .

( الثالث ) وادعى الشيخ أبو حيان أنه الصواب ، إذ المقصود نفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية ، لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق ، فلو قلت : ما في الدار رجل ظريف ، لم يدل ذلك على نفي مطلق رجل ، وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يلزم التناقض ، لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية ، وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر ، لأنهم يتساوون في الأظلمية ، وصار المعنى لا أحد أظلم ممن افترى ، وممن كذب ، ونحوها ، ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية ، ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر ، كما أنك إذا قلت : لا أحد أفقه من زيد ، وعمر ، وخالد ، لا يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر ، بل نفى أن يكون أحد أفقه منهم .

لا يقال : إن من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ، ولم يفتر على الله كذبا أقل ظلما ممن جمع بينهما ، فلا يكون مساويا في الأظلمية ، لأنا نقول : هذه الآيات كلها إنما هي في الكفار ، فهم متساوون في الأظلمية وإن اختلفت طرق الأظلمية ، فهي كلها صائرة إلى الكفر ، وهو شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لإفراد من اتصف به ، وإنما تمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم ، وللعصاة المؤمنين ، بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة ، فتقول : الكافر أظلم من المؤمن ، ونقول : لا أحد أظلم من الكافر ، ومعناه أن ظلم الكافر يزيد على ظلم غيره انتهى .

وقال بعض مشايخنا : لم يدع القائل نفي الظالمية ، فيقيم الشيخ الدليل على ثبوتها ، [ ص: 67 ] وإنما دعواه أن ( ومن أظلم ممن منع مثلا ) ، والغرض أن الأظلمية ثابتة لغير ما اتصف بهذا الوصف ، وإذا كان كذلك حصل التعارض ، ولا بد من الجمع بينهما ، وطريقه التخصيص فيتعين القول به .

وقول الشيخ : إن المعنى : " لا أحد أظلم ممن منع ، وممن ذكر " صحيح ، ولكن لم يستفد ذلك إلا من جهة التخصيص ، لأن الأفراد المنفي عنها الأظلمية في آية ، أثبتت لبعضها الأظلمية أيضا في آية أخرى ، وهكذا بالنسبة إلى بقية الآيات الوارد فيها ذلك .

وكلام الشيخ يقتضي أن ذلك استفيد لا بطريق التخصيص ، بل بطريق أن الآيات المتضمنة لهذا الحكم في حكم آية واحدة ، وإذا تقرر ذلك علمت أن كل آية خصت بأخرى ، ولا حاجة إلى القول بالتخصيص بالصلات ، ولا بالسبق .

( الرابع ) طريقة بعض المتأخرين ، فقال : متى قدرنا : ( لا أحد أظلم ) لزم أحد الأمرين : إما استواء الكل في الظلم ، وأن المقصود نفي الأظلمية عن غير المذكور ، لا إثبات الأظلمية له ، وهو خلاف المتبادر إلى الذهن ، وإما أن كل واحد أظلم في ذلك النوع ، وكلا الأمرين إنما لزم من جعل مدلولها إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة ، أو نفيها عن غيره .

وهنا معنى ثالث ، وهو أمكن في المعنى ، وسالم عن الاعتراض ، وهو الوقوف مع مدلول اللفظ من الاستفهام ، والمقصود به أن هذا الأمر عظيم فظيع ، قصدنا بالاستفهام عنه تخييل أنه لا شيء فوقه لامتلاء قلب المستفهم عنه بعظمته امتلاء يمنعه من ترجيح غيره ، فكأنه مضطر إلى أن يقول : لا أحد أظلم ، وتكون دلالته على ذلك استعارة لا حقيقة ، فلا يرد كون غيره أظلم منه إن فرض . وكثيرا ما يستعمل هذا في الكلام إذا قصد به التهويل ، فيقال : أي شيء أعظم من هذا إذا قصد إفراط عظمته ؟ ولو قيل للمتكلم بذلك : أنت قلت إنه أعظم الأشياء لأبى ذلك ، فليفهم هذا المعنى ، فإن الكلام ينتظم معه ، والمعنى عليه

التالي السابق


الخدمات العلمية