الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5508 5509 5510 5511 5512 5513 5514 5515 5516 5517 5518 5519 5520 5521 5522 5523 ص: وفي هذا أيضا حجة أخرى، وهي أن النبي -عليه السلام- جعل في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- للمتلقي البائع الخيار فيما باع إذا دخل الأسواق وعلم بالأسعار، فأردنا أن ننظر هل ضاد ذلك شيء أم لا؟ فاعتبرنا ذلك، فإذا أبو بكرة قد حدثنا، قال: ثنا حسين بن حفص الأصبهاني ، قال: ثنا سفيان ، عن يونس بن عبيد ، عن ابن سيرين ، عن أنس -رضي الله عنه- قال: "نهينا أن يبيع حاضر لباد، ، وإن كان أباه أو أخاه".

                                                حدثنا أبو أمية ، قال: ثنا عبد الله بن حمران ، عن ابن عون ، عن محمد ، عن أنس قال: "نهينا أن يبيع حاضر لباد".

                                                [ ص: 388 ] حدثنا نصر بن مرزوق ، قال: ثنا أسد ، قال: ثنا ابن أبي ذئب ، عن مسلم الخياط ، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبيع حاضر لباد".

                                                حدثنا علي بن عبد الرحمن ، قال: ثنا علي بن الجعد ، قال: أنا صخر بن جويرية ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله -عليه السلام- مثله.

                                                حدثنا روح بن الفرج ، قال: ثنا عمرو بن خالد ، قال: ثنا موسى بن أعين ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، عن النبي -عليه السلام- مثله، وزاد "ولا يشتري له".

                                                حدثنا أحمد بن داود ، قال: ثنا يعقوب بن حميد ، قال: ثنا الدراوردي ، عن داود بن صالح بن دينار ، عن أبيه، عن أبي سعيد ، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا يبيع حاضر لباد".

                                                حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب (ح).

                                                وحدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قالا: ثنا عبد الله بن نافع ، عن أبيه ، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن النبي -عليه السلام-، مثله.

                                                حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أسباط ، عن هشام بن حسان ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة، أن النبي -عليه السلام-، مثله.

                                                حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب ، قال: حدثني أبي ، قال: سمعت النعمان بن راشد ، يحدث، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي -عليه السلام-، مثله.

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا حسين بن حفص ، قال: ثنا سفيان ، عن صالح بن نبهان مولى التوأمة ، عن أبي هريرة عن النبي -عليه السلام- مثله.

                                                حدثنا حسين بن نصر ، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد ، قال: ثنا شعبة ، عن عدي بن ثابت، قال: سمعت أبا حزم يحدث، عن أبي هريرة ، قال: "نهى -أو نهي- أن يبيع المهاجر للأعرابي". .

                                                [ ص: 389 ] حدثنا ابن مرزوق ، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن أبي ليلى ، عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام-، عن النبي -عليه السلام-: "أنه نهى أن يبيع حاضر لباد".

                                                حدثنا يزيد بن سنان ، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال: ثنا سفيان ، عن صالح مولى التوأمة، قال: سمعت أبا هريرة يقول: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن يشتري حاضر لباد".

                                                فنظرنا في العلة التي نهي الحاضر أن يبيع للباد ما هي؟

                                                فإذا يونس قد حدثنا، قال: ثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، قال: سمعت جابرا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض".

                                                حدثنا فهد ، قال: ثنا موسى بن إسماعيل ، قال: ثنا وهيب ، عن عطاء ، عن حكيم بن أبي يزيد ، أنه جاءه في حاجة قال: فحدثني عن أبيه ، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "دعوا الناس فليصب بعضهم من بعض، وإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له". .

                                                فعلمنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى الحاضر أن يبيع للباد؛ لأن الحاضر يعلم أسعار الأسواق، فيستقصي على الحاضرين فلا يكون لهم في ذلك ربح، وإذا باعهم الأعرابي على غرته وجهله بأسعار الأسواق ربح عليه الحاضرون، فأمر النبي -عليه السلام- أن يخلى بين الحاضرين وبين الأعراب في البيوع ومنع الحاضرين أن يدخلوا عليهم، فإذا كان ما وصفنا كذلك وثبت إباحة التلقي الذي لا ضرر فيه بما وصفنا من الآثار التي ذكرنا؛ صار شراء المتلقي منهم شراء حاضر من باد، ، فهو داخل في قول النبي -عليه السلام-: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" وبطل أن يكون في ذلك خيار البائع؛ لأنه لو كان له فيه خيار إذا لما كان للمشتري في ذلك ربح، ولا أمر النبي -عليه السلام- حاضرا أن يعترض، ولا أن يتولى البيع للباد منه لأنه يكون بالخيار في [ ص: 390 ] فسخ ذلك البيع، أو يرد له ثمنه إلى الأثمان التي تكون في بياعات أهل الحضر بعضهم من بعض، ففي منع النبي -عليه السلام- الحاضرين من ذلك إباحة الحاضرين التماس غرة البادي في البيع منهم والشراء منهم، وهذا قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد -رحمهم الله-.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي وفي عدم ثبوت الخيار للبائع الجالب الذي يتلقاه الناس فيشترون منه أيضا برهان آخر، تقريره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- للبائع المتلقى الخيار فيما باعه إذا دخل الأسواق وعلم بأسعار الأشياء، فبعد ذلك ننظر هل ورد شيء يضاد ذلك أم لا؟ فاعتبرنا ذلك فوجدنا جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم-، وهم: أنس بن مالك وعبد الله بن عمر وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة ورجل من الصحابة وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهم- قد رووا عن النبي -عليه السلام- النهي عن بيع الحاضر للبادي.

                                                ثم نظرنا في العلة في هذا النهي ما هي؟

                                                فوجدناها في رواية جابر -رضي الله عنه- وهي أن نهيه -عليه السلام- عن بيع الحاضر للبادي هي كونه يعلم أسعار الأسواق فيستقصي على الحاضرين، فلا يجعل لهم في ذلك ربح إذا باعهم البادي على جهله وعدم معرفته بأسعار الأسواق ربح عليه الحاضرون فأمر النبي -عليه السلام- أن يخلى بين الحاضرين والبادين في البياعات حيث قال: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" ومنع الحاضرين أن يدخلوا عليهم، فإذا كان الأمر كذلك وقد ثبت إباحة التلقي الذي لا ضرر فيه بالآثار المذكورة، صار شراء المتلقي من الجلاب كشراء الحاضر من البادي فهو داخل في قوله -عليه السلام-: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" وبطل في ذلك أن يكون خيار للبائع؛ لأنه لو كان له خيار إذن لم يكن للمشتري في ذلك ربح لأن البادي ربما اختار الفسخ لعلمه بعد نزوله السوق الأسعار، فيحرم المشتري حينئذ من الربح الذي كان قد حصل له بشرائه عند التلقي، وأيضا لو كان للبائع خيار [ ص: 391 ] لكان له فسخ ذلك البيع أو رد ثمن المبيع الذي باعه إلى الأثمان التي تكون في بيوع أهل الحضر بعضهم من بعض، فحينئذ لم يكن للأمر في قوله: "دعوا الناس ... " الحديث، فائدة، فدل ذلك على إباحة الحاضرين طلب غرة البادين في البيع منهم والشراء منهم، ليرتزقوا بذلك فافهم.

                                                ثم إنه أخرج حديث أنس من طريقين صحيحين:

                                                الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن حسين بن حفص بن الفضل الأصبهاني روى له مسلم ، عن سفيان الثوري ، عن يونس بن عبيد بن دينار البصري ، عن محمد بن سيرين ، عن أنس .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا يحيى بن يحيى، قال أنا هشيم ، عن يونس ، عن ابن سيرين ، عن أنس بن مالك قال: "نهينا أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أخاه أو أباه".

                                                الثاني: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي ، عن عبد الله بن حمران بن عبد الله البصري ، عن عبد الله بن عون بن أرطبان البصري ، عن محمد بن سيرين ، عن أنس .

                                                وأخرجه مسلم أيضا : ثنا ابن مثنى، قال: ثنا معاذ، قال: ثنا ابن عون ، عن محمد، قال: قال أنس بن مالك: "نهينا أن يبيع حاضر لباد".

                                                وأخرجه البخاري أيضا.

                                                وأما حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- فأخرجه من خمس طرق، ثلاثة منها صحاح:

                                                الأول: عن نصر بن مرزوق ، عن أسد بن موسى ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب ، عن مسلم بن أبي مسلم الخياط المدني ، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، وقد مر هذا بعينه في أول الباب في تلقي الركبان، والظاهر أن هذا من تتمة ذاك.

                                                [ ص: 392 ] الثاني: عن علي بن عبد الرحمن ، عن علي بن الجعد بن عبيد الجوهري شيخ البخاري وأبي داود ، عن صخر بن جويرية البصري ، عن نافع ، عن ابن عمر ... إلى آخره.

                                                وقد مر هذا الإسناد أيضا بعينه في هذا الباب.

                                                وأخرجه البيهقي في "سننه" : من طريق الربيع ، عن الشافعي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبيع حاضر لباد". وقال البيهقي: عد هذا في أفراد الشافعي. وقد رواه القعنبي ، عن مالك؛ أنبأناه الحاكم، قال: ثنا أحمد بن إسحاق الفقيه من أصله، أنا محمد بن غالب عنه، ورواه إبراهيم بن نصر الرازي عنه، وقد رواه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن ابن عمر ، ولمالك مسانيد لم يودعها "الموطأ".

                                                الثالث: عن روح بن الفرج القطان ، عن عمرو بن خالد بن فروخ الجزري الحراني ، عن موسى بن أعين الجزري الحراني ، عن ليث بن أبي سليم القرشي الكوفي ، عن مجاهد ، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.

                                                وأخرجه البزار في "مسنده": نا يوسف بن موسى، نا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، عن النبي -عليه السلام- قال: "لا يبيع حاضر لباد".

                                                الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن وهب بن جرير ، عن عبد الله بن نافع، فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف. وعن النسائي: متروك.

                                                عن أبيه، عن نافع ، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- نحوه.

                                                الخامس: عن يزيد بن سنان القزاز ، عن أبي بكر الحنفي عبد الكبير بن عبد المجيد، أحد أصحاب أبي حنيفة، وشيخ أحمد بن حنبل ، عن عبد الله بن نافع ، عن أبيه، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.

                                                [ ص: 393 ] وأما حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- فأخرجه بإسناد قد مر بعينه في هذا الباب، ويعقوب بن حميد فيه مقال، وقد تكرر ذكره.

                                                وأما حديث أبي هريرة فأخرجه من خمس طرق:

                                                الأول: عن محمد بن عمرو بن يونس الثعلبي ، عن أسباط بن محمد الكوفي ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي -عليه السلام-.

                                                وهذا إسناد صحيح.

                                                وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا الحسن بن قزعة وعمرو بن عيسى، قالا: ثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، ثنا هشام -يعني ابن حسان- عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "نهى النبي -عليه السلام- أن يبيع حاضر لباد".

                                                الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن وهب بن جرير ، عن أبيه جرير بن حازم ، عن النعمان بن راشد ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي -عليه السلام-.

                                                وهذا أيضا إسناد صحيح.

                                                وأخرجه مسلم : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب، قالوا: ثنا سفيان ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة يبلغ به النبي -عليه السلام- قال: "لا يبع حاضر لباد".

                                                وأخرجه البخاري والنسائي أيضا.

                                                الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن حسين بن حفص الأصفهاني ، عن سفيان الثوري ، عن صالح بن النبهان مولى التوأمة بنت أمية بن خلف الجمحي فيه مقال، عن أبي هريرة .

                                                [ ص: 394 ] وأخرجه أحمد في "مسنده" : ثنا وكيع، ثنا سفيان ، عن صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبع حاضر لباد".

                                                الرابع: عن حسين بن نصر بن المعارك ، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي ، عن شعبة ، عن عدي بن ثابت ، عن أبي حازم سلمان الأشجعي ، عن أبي هريرة .

                                                وهذا إسناد صحيح، وقد مر بعينه في هذا الباب.

                                                وأخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي حازم عن أبي هريرة: "نهى أن يبيع مهاجري لأعرابي".

                                                الخامس: عن يزيد بن سنان القزاز ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان الثوري ، عن صالح بن نبهان ، عن أبي هريرة .

                                                وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن عثمان بن كرامة، ثنا عبيد الله وقبيصة ، عن سفيان ، عن صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة .

                                                أما حديث رجل من الصحابة -رضي الله عنه- فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق ، عن بشر بن عمر الزهراني ، عن شعبة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام-.

                                                وهذا إسناد صحيح.

                                                وأخرجه أحمد في "مسنده" : ثنا محمد بن جعفر، نا شعبة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن رجل من أصحاب النبي -عليه السلام- قال: "لا يتلقى الجلب ولا يبع حاضر لباد".

                                                [ ص: 395 ] وأما حديث جابر -رضي الله عنه- فأخرجه بإسناد صحيح عن يونس بن عبد الأعلى ، عن سفيان بن عيينة ، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي ، عن جابر .

                                                وأخرجه مسلم ثنا يحيى بن يحيى التميمي، قال: أنا أبو خيثمة ، عن أبي الزبير ، عن جابر -رضي الله عنه-.

                                                وثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو الزبير ، عن جابر قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "لا يبع حاضر لباد؛ دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض".

                                                وبقي الكلام في حديث أبي يزيد -بفتح الياء آخر الحروف- ذكره ابن الأثير في الصحابة وقال: أبو يزيد والد حكيم روى عنه عطاء بن السائب، وقال البغوي في "معجمه": أبو يزيد أبو حكيم بن أبي يزيد الكرخي، روى عن النبي -عليه السلام- حديثا لا أعلم حدث به إلا عطاء بن السائب، ويقال: إن لأبي يزيد صحبة وسكن الكوفة، وحدثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام، ثنا حماد بن زيد ، عن عطاء بن السائب ، عن حكيم بن أبي يزيد ، عن أبيه قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "دعوا الناس يصيب بعضهم من بعض؛ فإذا استنصح الرجل أخاه فلينصحه".

                                                وأخرجه أحمد أيضا في "مسنده" نحوه عن عبد الصمد ، عن أبيه، عن عطاء بن السائب ، عن حكيم بن أبي يزيد ، عن أبيه، أن النبي -عليه السلام- قال ... الحديث. وقال: وهذا الحديث رواه أبو عوانة ، عن عطاء ، عن حكيم بن أبي يزيد ، عن أبيه، عن رجل سمع النبي -عليه السلام- يقول، نحوه.

                                                ورواه حماد بن سلمة عن عطاء ، عن حكيم بن يزيد ، عن أبيه -وإنما هو ابن أبي يزيد- وقال البيهقي روي ذلك عن حكيم بن أبي يزيد ، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام- وقيل: عن أبيه، عمن سمع النبي -عليه السلام-.

                                                [ ص: 396 ] وذكر ابن حبان حكيما هذا في أتباع التابعين، فيدل هذا على أن والده أبا يزيد ليس من الصحابة، والله تعالى أعلم.

                                                قوله: "نهينا" على صيغة المجهول، وقد مر غير مرة أن مثل هذا اللفظ مستند إلى النبي -عليه السلام-.

                                                قوله:"أن يبيع حاضر لباد" الحاضر المقيم في المدن والقرى، والبادي المقيم بالبادية، وقال ابن حبيب: البادي الذي لا يبيع له الحاضر: هم أهل العمود وأهل البوادي والبراري مثل الأعراب.

                                                قوله: "وإن كان أباه" واصل بما قبله، أي وإن كان البادي أب الحاضر أو أخاه.

                                                قوله: "لا يبيع حاضر" على صورة النفي وفي بعض الروايات "لا يبع" بالجزم على صورة النهي.

                                                قوله: "نهى أو نهي" الأول: على صورة المعلوم، أي نهى رسول الله -عليه السلام-، والثاني: على صيغة المجهول وهو أيضا مستند إلى النبي -عليه السلام-.

                                                قوله: "أن يبيع المهاجر للأعرابي" أراد بالمهاجر الحاضر الذي هاجر، ومن الأعرابي الذي يأتي من البادية، وكان الحاضر المهاجر نهي أن يبيع للأعرابي، ثم جاء النهي عن بيع الحاضر للبادي مطلقا، سواء كان الحاضر مهاجرا أو لم يكن، كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "نهى رسول الله -عليه السلام- أن يبيع حاضر لباد" فهذا أعم من أن يكون مهاجرا أو غيره.

                                                قوله: "دعوا الناس" أي اتركوهم.

                                                قوله: "وإذا استنصح" أي وإذا طلب أحدكم من أحد النصيحة.

                                                ويستفاد منه أحكام:

                                                الأول: قال أبو عمر : قال أبو حنيفة وأصحابه -رضي الله عنهم-: لا بأس أن يبيع [ ص: 397 ] الحاضر للبادي، واحتجوا في ذلك بقوله -عليه السلام-: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض".

                                                وقال الشافعي: لا يبيع حاضر لباد، فإن باع فهو عاص إذا كان عالما بالنهي، ويجوز البيع لقوله -عليه السلام-: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض".

                                                وقال ابن حزم: بيع الحاضر للبادي باطل، فإن فعل فسخ البيع والشراء أبدا وحكم فيه بحكم الغصب، ولا خيار لأحد في إمضائه، واستدل بأحاديث رواها عن أبي هريرة وأنس بن مالك وابن عباس وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم- في النهي عن بيع الحاضر للبادي.

                                                ثم قال: هذا نقل عن خمسة من الصحابة بالطرق الثابتة، ثم روى آثارا عن جماعة من الصحابة في ذلك المعنى.

                                                ثم قال: فهؤلاء المهاجرون جملة، وعمر بن الخطاب وأنس وابن عباس وأبو هريرة وطلحة لا مخالف لهم يعرف من الصحابة -رضي الله عنهم-، وهو قول عطاء وعمر بن عبد العزيز .

                                                ثم قال: "وروينا عن بعض المتأخرين خلافا، روينا عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا أن يشتري من الأعرابي للأعرابي، قيل له: فيشتري منه المهاجر؟ قال: لا.

                                                وعنه أيضا: "اشتر للبدوي ولا تبع له" وروى عن إبراهيم قال: كان يعجبهم أن يصيبوا من الأعراب رخصة. وهو قول الأوزاعي وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي وأبي سليمان ومالك والليث، قال الأوزاعي: لا يبع له، ولكن يشير عليه، وليس الإشارة بيعا إلا أن الشافعي قال: إن وقع البيع لم يفسخ، وقال مالك والليث: لا يشير عليه، وقال مالك: لا يبع الحاضر أيضا لأهل القرى، ولا بأس بأن يشتري الحاضر للبادي، وإنما منع من البيع له فقط، ثم قال: لا يبع مدني لمصري، ولا مصري لمدني، ولكن يشير كل واحد منهما على الآخر، ويخبر بالبيع.

                                                [ ص: 398 ] وقال أبو حنيفة: بيع الحاضر للبادي لا بأس به، وقال أبو عمر: : قال ابن وهب عن مالك: لا أرى أن يبيع الحاضر للبادي، ولا لأهل القرى وروى أصبغ عن ابن القاسم فيمن فعل ذلك أنه يفسخ بيعه وكذلك روى عيسى عن ابن القاسم، قال: وإن تاب فلا شيء عليه، وروى عيسى وسحنون عن ابن القاسم أنه قال: يؤدب الحاضر إذا باع للبادي، قال في رواية عيسى: إن كان معتادا لذلك، وقال ابن وهب: لا يؤدب عالما كان بالنهي عن ذلك أو جاهلا.

                                                وقال أبو عمر: لم يختلف قول مالك في كراهية بيع الحاضر للبادي، واختلف قوله في شراء الحاضر للبادي، فمرة قال: لا بأس أن يشتري له، ومرة قال: لا يشتري له، ولا يشير عليه، وبه قال ابن حبيب .

                                                وقال ابن الأثير: والمنهي عن ذلك أن يأتي البدوي البلد ومعه قوت يبغي التسارع إلى بيعه رخيصا فيقول له الحضري: اتركه عندي لأغالي في بيعه، فهذا الصنيع محرم لما فيه من الإضرار بالغير والبيع إذا جرى مع المغالاة منعقد، وقال أيضا: هذا إذا كانت السلعة مما تعم الحاجة إليها كالأقوات، فإن كانت لا تعم، أو كثر القوت واستغني عنه ففي التحريم تردد ويعول في أحدهما على عموم ظاهر النهي، وحسم باب الضرر، وفي الثاني على معنى الضرر وزواله، وقد جاء عن ابن عباس أنه سئل عن معنى "لا يبع حاضر لباد" فقال: "لا يكون له سمسارا".

                                                وقال الكاساني في "البدائع": بيع الحاضر للبادي هو أن يكون لرجل طعام وعلف لا يبيعهما إلا لأهل البادية بثمن غال، ثم روى الحديث المذكور، ثم قال: ولو باع جاز البيع؛ لأن النهي لمعنى في غير البيع، وهو الإضرار بأهل المصر، [ ص: 399 ] فلا يوجب فساد البيع كالبيع وقت النداء، وهذا إذا كان ذلك يضر بأهل البلد بأن كان أهله في قحط من الطعام والعلف فإن كانوا في خصب وسعة فلا بأس به لانعدام الضرر.

                                                الثاني: فيه أن الناس لا يتعرض بعضهم بعضا في مكاسبهم، ووجوه طلبهم للأرزاق.

                                                الثالث: فيه الندب إلى النصيحة للمسلمين، وأنه من الدين؛ قال -عليه السلام-: "الدين النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين" ولا سيما للمستنصح، والله أعلم.

                                                ***




                                                الخدمات العلمية