الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4533 ص: فكان من حجتنا على أهل هذه المقالة أن ما أخذ به عمر -رضي الله عنه- في دفع حديث فاطمة حجة صحيحة؛ وذلك أن الله عز وجل قال: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ثم قال: لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ؛ وأجمعوا أن ذلك الأمر هو المراجعة، ثم قال: أسكنوهن من حيث سكنتم ثم قال: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن يريد في العدة، فكانت المرأة إذا طلقها زوجها اثنتين للسنة على ما أمره الله -عز وجل- ثم راجعها ثم طلقها أخرى للسنة حرمت عليه ووجبت عليها العدة التي جعل الله -عز وجل- لها فيها السكنى وأمرها فيها أن لا تخرج، وأمر الزوج أن لا يخرجها، ولم يفرق الله -عز وجل- بين هذه المطلقة للسنة التي لا رجعة عليها وبين المطلقة للسنة التي عليها الرجعة، فلما جاءت فاطمة بنت قيس فروت عن النبي -عليه السلام- أنه قال لها: "إنما السكنى والنفقة لمن كانت عليها الرجعة؛ خالفت بذلك كتاب الله -عز وجل- نصا؛ لأن كتاب الله تعالى قد جعل السكنى لمن لا رجعة عليها، وخالفت سنة رسول الله -عليه السلام-؛ لأن عمر -رضي الله عنه- [ ص: 129 ] قد روى عن رسول الله -عليه السلام- خلاف ما روت فخرج المعنى الذي منه أنكر عليها عمر ما أنكر؛ خروجا صحيحا؛ وبطل حديث فاطمة، فلم يجب العمل به أصلا لما ذكرنا وبينا.

                                                التالي السابق


                                                ش: هذا جواب عن الإيراد والمعارضة المذكورين، تقريره: أن الله تعالى قال: لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا بعد قوله: فطلقوهن لعدتهن وأجمعوا أن المراد من ذلك الأمر هو المراجعة، والمعنى أنه يحدث له ندم فلا ينفعه؛ لأنه قد طلق ثلاثا، وفي غير الثلاث يبدو له فيراجعها، ثم قال: أسكنوهن من حيث سكنتم وهو يشتمل البائن والرجعي؛ لأن قوله: فطلقوهن لعدتهن قد تضمن البائن، ثم قال: أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم وجب ذلك للجميع من البائن والرجعي، ثم قال: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن فيه نهي للزوج عن إخراجها، ونهي لها عن الخروج، وفيه دليل على وجوب السكنى لها ما دامت في العدة؛ لأن بيوتهن التي نهى الله عن إخراجهن منها هي البيوت التي كانت تسكنها قبل الطلاق، فأمر بتبقيتها في بيتها ونسبها إليها بالسكنى كما قال: وقرن في بيوتكن وإنما كانت البيوت للنبي -عليه السلام-، ولهذه الآية قال أصحابنا: لا يجوز له أن يسافر بها حتى يشهد على رجعتها، ومنعوها من السفر في العدة، ثم إن الله تعالى لم يفرق في ذلك بين المطلقة التي لا رجعة عليها وبين المطلقة التي عليها الرجعة، وقد تضمنت الآية الدلالة على وجوب نفقة المبتوتة من ثلاثة أوجه:

                                                أحدها: السكنى لما كانت حقا في مال قد أوجبها الله بنص الكتاب، إذ كانت الآية قد تناولت المبتوتة والرجعية، فقد اقتضى ذلك وجوب النفقة إذ كانت السكنى حقا في مال وهي بعض النفقة.

                                                [ ص: 130 ] والثاني: قوله: ولا تضاروهن والمضارة تقع في النفقة كهي في السكنى.

                                                والثالث: قوله: لتضيقوا عليهن والتضييق قد يكون في النفقة أيضا، فعليه أن ينفق عليها ولا يضيق عليها فيها، فإذا كان الأمر كذلك، فقد جاءت فاطمة بنت قيس فروت عن النبي -عليه السلام- أنه قال لها: "إنما السكنى والنفقة لمن كانت عليها الرجعة، فقد خالفت بذلك الكتاب والسنة، أما الكتاب فقد قلنا: إنه جعل السكنى لمن لا رجعة عليها، وأما السنة فلأن عمر -رضي الله عنه- قد روى عن النبي -عليه السلام- خلاف ما روت هي، حيث قال: سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: "لها السكنى والنفقة" أي للمبتوتة، وقد مر ذكره فيما مضى، وكذلك روى جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- عن النبي -عليه السلام- قال: "المطلقة ثلاثا لها السكنى والنفقة".

                                                رواه الدارقطني من حديث حرب بن أبي العالية ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي -عليه السلام-، وحرب بن أبي العالية حديثه في صحيح مسلم .

                                                وأخرج له أيضا الحاكم في "مستدركه" ويكفيه توثيقا رواية مسلم له، فإذا ثبت هذا؛ ظهر أن ما أنكر عليها عمر -رضي الله عنه- هو إنكار صحيح وبطل بذلك حديث فاطمة، فلم يجب العمل به أصلا، ولا يعمل به إلا من خالف الكتاب والسنة، والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية