الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5587 ص: فإن قال قائل: إنما أجيز ، بيع الثمر في هذه الآثار لأنه مبيع مع غيره وليس في جواز بيعه مع غيره ما يدل أن بيعه وحده كذلك؛ لأنا قد رأينا أشياء تدخل مع غيرها في البياعات ولا يجوز إفرادها بالبيع، من ذلك: الطرق والأفنية تدخل في بيع الدور، ولا يجوز أن تفرد بالبيع، فجوابنا له في ذلك أن الطرق والأفنية تدخل في بيع الدور وإن لم تشترط، والثمر لا يدخل في بيع النخل إلا أن يشترط، فالذي يدخل في بيع غيره لا باشتراط هو الذي لا يجوز أن يكون مبيعا وحده، والذي لا يكون داخلا في بيع غيره إلا باشتراط هو الذي إذا اشترط كان مبيعا، فلم يجز أن يكون مبيعا مع غيره إلا وبيعه وحده جائز، ألا ترى أن رجلا لو باع دارا وفيها متاع أن ذلك المبتاع لا يدخل في البيع، وأن مشتريها لو اشترطه في شرائه الدار صار له باشتراطه إياه، ولو كان الذي في الدار خمرا أو خنزيرا باشتراطه في البيع فسد البيع، فكان لا يدخل في شرائه الدار باشتراطه في ذلك إلا ما يجوز له شراؤه وحده لو اشتراه، فكان الثمر الذي ذكرنا يجوز له اشتراطه مع النخل، فلم يكن ذلك إلا لأنه يجوز بيعه وحده أولا ترى، أن النبي -عليه السلام- قد قال في هذا الحديث وقرنه مع ذكر النخل: "من باع عبدا له مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، فجعل المال للبائع إذا لم يشترطه المبتاع، وجعله للمبتاع باشتراطه إياه، فكان ذلك المال لو كان خمرا أو خنزيرا فسد بيع العبد إذا اشترطه فيه، وإنما يجوز أن يشترط مع العبد من ماله ما يجوز بيعه وحده، فأما ما لا يجوز بيعه وحده فلا يجوز اشتراطه في بيعه؛ لأنه يكون بذلك مبيعا، وبيع ذلك الشيء لا يصلح، فذلك أيضا دليل صحيح على ما ذكرنا في الثمار الداخلة في بيع النخل بالاشتراط، أنها الثمار التي يجوز بيعها على الانفراد دون بيع النخل؛ فثبت بذلك ما ذكرنا.

                                                [ ص: 485 ] وهذا قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف -رحمهما الله-.

                                                وقد كان محمد بن الحسن يذهب إلى أن النهي الذي ذكرناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أول هذا الباب هو بيع الثمر ، على أن يترك في رءوس النخل حتى يبلغ ويتناهى، وحتى يجذ، وقد وقع البيع عليه قبل التناهي، فيكون المشتري قد ابتاع ثمرا ظاهرا، وما ينميه على نخل البائع بعد ذلك إلى أن يجذ فذلك باطل، قال: فأما إن وقع البيع بعدما تناهى عظمه وانقطعت زيادته، فلا بأس بابتياعه واشتراط تركه إلى حصاده وجذاذه، قال: فإنما وقع النهي عن ذلك لاشتراط الترك؛ لمكان الزيادة، قال: وفي ذلك دليل على أن لا بأس بذلك الاشتراط في ابتياعه بعد عدم الزيادة، حدثني سليمان بن شعيب بهذا، عن أبيه، عن محمد. .

                                                وتأويل أبي حنيفة ، وأبي يوسف في هذا حسن عندنا. والله أعلم.

                                                والنظر أيضا يشهد له؛ لأنه إذا وقع البيع على الثمار بعد تناهيها على أن تترك إلى الحصاد فالنخل ها هنا مستأجرة لتكون الثمار فيها إلى وقت جذاذها عنها، وذلك لو كان على الانفراد لم يجز، فإذا كان مع غيره، فهو أيضا كذلك.

                                                التالي السابق


                                                ش: هذا سؤال وارد من جهة أهل المقالة الأولى على ما استدلت به أهل المقالة الثانية، فيما ذهبوا إليه من جواز بيع الثمار في أشجارها بعدما ظهرت، وتقريره أن يقال: إنما أجيز بيع الثمار في الأحاديث التي استدللتم؛ لأنها مبيعة مع غيرها، وليس شيء يدل على جواز بيعها بانفرادها؛ لأنه لا ملازمة بين جواز بيعها مع غيرها، وبين بيعها وحدها، والدليل على ذلك أنا وجدنا أشياء تدخل مع غيرها في البيع بالتبعية مع أن بيعها بانفرادها لا يجوز، وذلك كالطريق، وفناء الدار، فإن من باع دارا يدخل فيه طريقها وفناؤها، ومع هذا لا يجوز بيع الطريق ولا الفناء بانفرادها.

                                                والجواب عنه ظاهر غني عن الشرح.

                                                [ ص: 486 ] قوله: "في البياعات" بكسر الباء: جمع بياعة بمعنى البيع، والبياعة السلعة أيضا، قاله الجوهري .

                                                و"الأفنية" جمع فناء الدار -بكسر الفاء- وهو ما امتد من جوانبها.

                                                قوله: "وحتى تجذ" على صيغة المجهول من جذ الثمرة يجذها جذا إذا قطعها، والجذاذ بالفتح والكسر صرام النخل، وهو قطع ثمراتها، وبابه فعل يفعل، كنصر ينصر.

                                                قوله: "بعدما تناهى عظمه" بكسر العين وفتح الظاء ويجوز بضم العين وسكون الظاء.

                                                ثم تحقيق الخلاف في هذه المسألة بين أصحابنا وغيرهم أن بيع الثمر على الشجر بعد ظهوره، وبيع الزرع في الأرض بشرط الترك لا يخلو إما أن يكون لم يبد صلاحه بعد بأن صار منتفعا به بوجه من الوجوه، وإما أن يكون قد بدا صلاحه وكل ذلك يخلو من أن يكون بشرط القطع، أو مطلقا، أو بشرط الترك حتى يبلغ، فإن كان لم يبد صلاحه فباع بشرط القطع جاز، وعلى المشتري أن يقطع للحال، وليس له أن يترك من غير إذن البائع، ومن مشايخنا من قال: لا يجوز بيعه قبل بدو صلاحه، وهو خلاف ظاهر الرواية، ولو باع مطلقا عن شرط؛ جاز أيضا عندنا، خلافا للشافعي، وأما إن بدا صلاحه فباع بشرط القطع، أو مطلقا، جاز أيضا، وإن باع بشرط الترك، فإن لم يكن تناهى عظمه فالبيع فاسد بلا خلاف، وإن كان قد تناهى عظمه فكذلك فاسد عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: يجوز استحسانا، لتعارف الناس على ذلك وتعاملهم، فلو اشترى مطلقا عن شرط، فترك فإن كان قد تناهى عظمه ولم يبق إلا النضج لم يبطل بشيء، سواء ترك بإذن البائع أو بغير إذنه؛ لأنه لا يزداد بعد التناهي، وإنما يتغير إلى حالة النضج، وإن كان لم يتناه عظمه ينظر، إن كان الترك بإذن البائع جاز وطاب له الفضل، وإن كان بغير إذنه يتصدق بما زاد في [ ص: 487 ] ذاته على ما كان عند العقد؛ لأن الزيادة حصلت بجهة محظورة، فأوجبت خبثا فيها، فكان سبيلها التصدق، فإن استأجر المشتري من البائع الشجر للترك إلى وقت الإدراك، طاب له الفضل لأن الترك حصل بإذن البائع، ولكن لا تجب الأجرة؛ لأن هذه الإجارة باطلة؛ لأن جوازها ثبت على مخالفة القياس، لتعامل الناس، فما لم يتعاملوا فيه لا تصح فيه الإجارة، ولهذا لم تصح إجارة للأشجار لتجفيف الثياب، وإجارة الأوتاد لتعليق الأشياء عليها، وإجارة الكتب للقراءة، ونحو ذلك حتى لم تجب الأجرة.

                                                ولو أخرجت الشجرة في مدة الترك ثمرة أخرى فهي للبائع سواء كان الترك بإذنه أو بغير إذنه، لأنه نماء ملك البائع فيكون له، ولو حللها له البائع جاز إن اختلط الحادث بعد العقد بالوجود عنده حتى لا يعرف بنظر، إن كان قبل التخلية بطل البيع؛ لأن المبيع صار معجوز التسليم بالاختلاط، للجهالة وتعذر التمييز، فأشبه العجز عن التسليم بالهلاك.

                                                وإن كان بعد التخلية لم يبطل؛ لأن التخلية قبض، وحكم البيع يتم ويتناهى بالقبض، والثمرة تكون بينهما لاختلاط ملك أحدهما بالأخرة اختلاطا لا يمكن التميز بينهما، فكان الكل مشتركا بينهما، والقول قول المشتري في المقدار؛ لأنه صاحب يد لوجود التخلية، فكان الظاهر شاهدا له فكان القول قوله، ولو اشترى ثمرة بدا صلاح بعضها دون بعض بأن أدرك البعض دون البعض بشرط الترك، فالبيع فاسد على أصلهما وأما على أصل محمد -رحمه الله-: فهو اختيار العادة، فإن كان صلاح المتأخر متقاربا جاز؛ لأن العادة في الثمار أن لا يدرك الكل دفعة واحدة، بل يتقدم إدراك البعض على البعض، يلحق بعضها بعضا، فصار كأنه اشتراها بعد إدراك الكل، ولو كان كذلك يصح الشراء عنده بشرط الترك، فكذا هذا.

                                                وإن كان يتأخر إدراك البعض عن البعض تأخرا فاحشا كالعنب ونحوه؛ يجوز البيع فيما أدرك، ولا يجوز فيما لم يدرك، والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية