الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 186 ] 6 - أو

تقع في الخبر والطلب ،
فأما في الخبر فلها فيه معان :

( الأول ) الشك ، نحو : قام زيد أو عمرو .

( والثاني ) الإبهام وهو إخفاء الأمر على السامع مع العلم به كقوله تعالى : ( وإنا أو إياكم لعلى هدى ) ( سبأ : 24 ) . وقوله : ( أتاها أمرنا ليلا أو نهارا ) ( يونس : 24 ) يريد إذا أخذت الأرض زخرفها ، وأخذ أهلها الأمن أتاها أمرنا وهم لا يعلمون . أي فجأة فهذا إبهام ، لأن الشك محال على الله تعالى . وقوله : ( إلى مائة ألف أو يزيدون ) ( الصافات : 147 ) .

فإن قلت : يزيدون فعل ، ولا يصح عطفه على المجرور بـ " إلى " ، فإن حرف الجر لا يصح تقديره على الفعل ، ولذلك لا يجوز : مررت بقائم ويقعد ، على تأويل : قائم وقاعد . قلت : " يزيدون " خبر مبتدأ محذوف في محل رفع ، والتقدير : " أو هم يزيدون " . قاله ابن جني في " المحتسب " .

وجاز عطف الاسمية على الفعلية بـ " أو " لاشتراكهما في مطلق الجملة . فإن قلت : فكيف تكون " أو " هنا لأحد الشيئين ، والزيادة لا تنفك عن المزيد عليه ؟ قلت : الأمر كذلك ، ولهذا قدروا في المبتدأ ضمير المائة ألف ، والتقدير : وأرسلناك إلى مائة ألف فقط ، أو مائة ألف معها زيادة ، ويحتمل أن تكون على بابها للشك ، وهو بالنسبة إلى المخاطب ، أي لو رأيتموهم لعلمتم أنهم مائة ألف أو يزيدون .

( الثالث ) : التنويع كقوله تعالى : ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) ( البقرة : 74 ) أي أن قلوبهم تارة تزداد قسوة ، وتارة ترد إلى قسوتها الأولى ، فجيء بـ " أو " لاختلاف أحوال قلوبهم .

( الرابع ) التفصيل كقوله تعالى : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) [ ص: 187 ] ( البقرة : 111 ) أي قالت اليهود : لا يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا الذين هم نصارى ، وكذلك قوله : ( كونوا هودا أو نصارى ) ( البقرة : 135 ) .

( الخامس ) للإضراب كـ " بل " كقوله تعالى : ( كلمح البصر أو هو أقرب ) ( النحل : 77 ) و ( مائة ألف أو يزيدون ) ( الصافات : 147 ) على حد قوله : ( قاب قوسين أو أدنى ) ( النجم : 9 )

( السادس ) بمعنى الواو كقوله : ( فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا ) ( المرسلات : 5 - 6 ) . ( لعله يتذكر أو يخشى ) ( طه : 44 ) . ( لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا ) ( طه : 113 ) .

وأما في الطلب فلها معان :

( الأول ) الإباحة ، نحو : تعلم فقها أو نحوا كقوله تعالى : ( ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم ) ( النور : 61 ) الآية . وكذلك قوله : ( كالحجارة أو أشد قسوة ) ( البقرة : 74 ) يعني إن شبهت قلوبهم بالحجارة فصواب ، أو بما هو أشد فصواب . وقوله : ( كمثل الذي استوقد نارا ) ( البقرة : 17 ) ( أو كصيب ) ( البقرة : 19 ) .

والمعنى أن التمثيل مباح في المنافقين إن شبهتموهم بأي النوعين .

قوله : ( لعله يتذكر أو يخشى ) ( طه : 44 ) إباحة لإيقاع أحد الأمرين .

[ ص: 188 ] ( الثاني ) التخيير ، نحو : خذ هذا الثوب أو ذاك ، ومنه قوله تعالى : ( فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء ) ( الأنعام : 35 ) الآية ، فتقديره فافعل ، كأنه خير على تقدير الاستطاعة ، أن يختار أحد الأمرين ، لأن الجمع بينهما غير ممكن .

والفرق بينهما أن التخيير فيما أصله المنع ، ثم يرد الأمر بأحدهما لا على التعيين ، ويمتنع الجمع بينهما ، وأما الإباحة فأن يكون كل منهما مباحا ، ويطلب الإتيان بأحدهما ، ولا يمتنع من الجمع بينهما ، وإنما يذكر بـ " أو " لئلا يوهم بأن الجمع بينهما هو الواجب لو ذكرت الواو ، ولهذا مثل النحاة الإباحة بقوله تعالى : ( فكفارته إطعام عشرة مساكين ) ( المائدة : 89 ) وقوله : ( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) ( البقرة : 196 ) لأن المراد به الأمر بأحدهما رفقا بالمكلف ، فلو أتى بالجمع لم يمنع منه بل يكون أفضل .

وأما تمثيل الأصوليين بآيتي الكفارة والفدية للتخيير مع إمكان الجمع ، فقد أجاب عنه صاحب البسيط بأنه إنما يمتنع الجمع بينهما في المحظور ، لأن أحدهما ينصرف إليه الأمر ، والآخر يبقى محظورا لا يجوز له فعله ، ولا يمتنع في خصال الكفارة ، لأنه يأتي بما عدا الواجب تبرعا ، ولا يمنع من التبرع .

واعلم أنه إذا ورد النهي عن الإباحة جاز صرفه إلى مجموعهما ، وهو ما كان يجوز فعله ، أو إلى أحدهما وهو ما تقتضيه أو . وأما قوله تعالى : ( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) ( الإنسان : 24 ) فليس المراد منه النهي عن إطاعة أحدهما دون الآخر ، بل [ ص: 189 ] المراد النهي عن طاعتهما مفردين أو مجتمعين ، وإنما ذكرت " أو " لئلا يتوهم أن النهي عن طاعة من اجتمع فيه الوصفان .

وقال ابن الحاجب : استشكل قوم وقوع " أو " في النهي في هذه الآية ، فإنه لو انتهى عن أحدهما لم يمتثل ولا يعد ممتثلا إلا بالانتهاء عنهما جميعا .

فقيل : إنها بمعنى " الواو " ، والأولى أنها على بابها ، وإنما جاء التعيين فيها من القرينة لأن المعنى قبل وجود النهي : " تطيع آثما أو كفورا " ، أي واحدا منهما ، فإذا جاء النهي ورد على ما كان ثابتا في المعنى ، فيصير المعنى : ولا تطع واحدا منهما ، فيجيء التعميم فيهما من جهة النهي الداخل ، وهي على بابها فيما ذكرناه ، لأنه لا يحصل الانتهاء عن أحدهما حتى ينتهي عنهما بخلاف الإثبات ، فإنه قد يفعل أحدهما دون الآخر .

قال : فهذا معنى دقيق ، يعلم منه أن " أو " في الآية على بابها ، وأن التعميم لم يجئ منها ، وإنما جاء من جهة المضموم إليها . انتهى .

ومن هذا - وإن كان خبرا - قوله تعالى : ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) ( النساء : 11 ) لأن الميراث لا يكون إلا بعد إنفاذ الوصية والدين ، وجد أحدهما أو وجدا معا .

وقال أبو البقاء في اللباب : إن اتصلت بالنهي وجب اجتناب الأمرين عند النحويين كقوله تعالى : ( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) ( الإنسان : 24 ) ولو جمع بينهما لفعل المنهي عنه مرتين لأن كل واحد منهما أحدهما . وقال في موضع آخر : مذهب سيبويه أن " أو " في النهي نقيضية ، أو في الإباحة ، فقولك : جالس الحسن أو ابن سيرين ، إذن في [ ص: 190 ] مجالستهما ومجالسة من شاء منهما ، فضده في النهي ( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) ، أي : لا تطع هذا ولا هذا ، والمعنى لا تطع أحدهما ، ومن أطاع منهما كان أحدهما كان منهما ، فمن ههنا كان نهيا عن كل واحد منهما ، ولو جاء بالواو في الموضعين أو أحدهما لأوهم الجمع .

وقيل : " أو " بمعنى الواو ، لأنه لو انتهى عن أحدهما لم يعد ممتثلا بالانتهاء عنهما جميعا . قال الخطيبي : والأولى أنها على بابها ، وإنما جاء التعميم فيها من النهي الذي فيه معنى النفي ، والنكرة في سياق النفي تعم ، لأن المعنى قبل وجود النهي : تطيع آثما أو كفورا ، أي واحدا منهما ، فالتعميم فيهما ، فإذا جاء النهي ورد على ما كان ثابتا ، فالمعنى : لا تطع واحدا منهما فسمى التعميم فيهما من جهة النهي ، وهي على بابها فيما ذكرناه ، لأنه لا يحصل الانتهاء عن أحدهما ، حتى ينتهي عنهما ، بخلاف الإثبات ، فإنه قد ينتهي عن أحدهما ، دون الآخر .

( تنبيهان ) الأول : روى البيهقي في سننه في باب الفدية بغير النعم ، عن ابن جريج ، قال : كل شيء في القرآن فيه " أو " للتخيير إلا قوله تعالى : ( أن يقتلوا أو يصلبوا ) ( المائدة : 33 ) ليس بمخير فيهما .

قال الشافعي : وبهذا أقول .

الثاني : من أجل أن مبناها على عدم التشريك أعاد الضمير إلى مفرديها بالإفراد ، بخلاف الواو ، وأما قوله تعالى : ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) [ ص: 191 ] ( النساء : 135 ) فقد قيل : إن " أو " بمعنى الواو ولهذا قال : بهما ولو كانت لأحد الشيئين لقيل به ، وقيل : على بابها ، ومعنى ( غنيا أو فقيرا ) إن يكن الخصمان غنيين أو فقيرين ، أو منهما ، أي الخصمين على أي حال كان ؟ لأن ذلك ذكر عقيب قوله : ( كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ) ( النساء : 135 ) يشير للحاكم والشاهد ، وذلك يتعلق باثنين .

وقيل : الأولوية المحكوم بها ثابتة للمفردين معا ، نحو : جاءني زيد أو عمرو ، ورأيتهما ، فالضمير راجع إلى الغني والفقير المعلومين من وجوه الكلام ، فصار كأنه قيل : فالله أولى بالغني والفقير . ويستعمل ذلك المذكور وغيره ، ولو قيل : فالله أولى به ، لم يشمله ولأنه لما لم يخرج المخلوقون عن الغنى والفقر ، صار المعنى : افعلوا ذلك لأن الله أولى ممن خلق ، ولو قيل : أولى به لعاد إليه من حيث الشهادة فقط .

التالي السابق


الخدمات العلمية