الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 146 ] المسألة الثامنة

          اتفق القائلون بالنسخ على جواز نسخ القرآن بالقرآن ; لتساويه في العلم به ووجوب العمل ، وذلك كما بيناه من نسخ الاعتداد بالحول بأربعة أشهر وعشر ، ونسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول بقوله : ( أأشفقتم ) الآية .

          ونسخ وجوب ثبوت الواحد للعشرة بقوله تعالى : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) واتفقوا أيضا على جواز نسخ السنة المتواترة بالمتواترة منها ، ونسخ الآحاد منها بالمتواتر ، ونسخ الآحاد بالآحاد كما روي أنه صلى الله عليه وسلم حرم زيارة القبور بنهيه عنها ثم نسخ ذلك بقوله : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها " [1] وكما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في شارب الخمر : " فإن شربها الرابعة فاقتلوه " [2] فنسخ ذلك بما روي عنه أنه حمل إليه من شربها الرابعة فلم يقتله .

          وأما نسخ المتواتر منها بالآحاد ، فقد اتفقوا على جوازه عقلا واختلفوا في وقوعه سمعا ، فأثبته داود وأهل الظاهر ونفاه الباقون .

          وقد احتج النافون لذلك بالإجماع والمعنى .

          [ ص: 147 ] أما الإجماع ، فما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : " لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت " [3] وأيضا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : " لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول أعرابي بوال على عقبيه " .

          [4] ووجه الاحتجاج به أنهما لم يعملا بخبر الواحد ولم يحكما به على القرآن ، وما ثبت من السنة تواترا ، وكان ذلك مشتهرا فيما بين الصحابة ولم ينكر عليهما منكر ، فكان ذلك إجماعا .

          وأما المعنى فهو أن الآحاد ضعيف والمتواتر أقوى منه ، فلا يقع الأضعف في مقابلة الأقوى .

          [5] ولقائل أن يقول : عدم قبول خبر الواحد فيما ذكر لا يمنع من قبول خبر الواحد مطلقا ، وذلك لأنه لا مانع أن يكون امتناع قبوله لعدم حصول الظن بصدقه .

          ولهذا قال عمر : " لا ندري أصدقت أم كذبت " وقال علي في الأعرابي ما قال ، وإلا فكيف يمكن القول بعدم قبول خبر الواحد مع ما بينا من كون خبر الواحد حجة ، ومع ما بيناه من جواز تخصيص التواتر بالآحاد .

          [6] وما ذكروه من المعنى فهو باطل بالتخصيص على ما سبق .

          [ ص: 148 ] كيف وإنه وإن كان أضعف من المتواتر من جهة كونه آحادا إلا أنه أقوى من المتواتر من جهة كونه خاصا والمتواتر عاما . والظن الحاصل من الخاص إذا كان آحادا أقوى من الظن الحاصل من العام المتواتر ; لأن تطرق الضعف إلى الواحد من جهة كذبه واحتمال غلطه ، وتطرق الضعف إلى العام من جهة تخصيصه واحتمال إرادة بعض ما دل عليه دون البعض واحتمال تطرق التخصيص إلى العام - أكثر من تطرق الخطأ والكذب إلى العدل ، فكان الظن المستفاد من خبر الواحد أقوى .

          وأما المثبتون فقد احتجوا بالنقل والمعنى .

          أما النقل فمن وجهين :

          الأول : أن وجوب التوجه إلى بيت المقدس كان بالسنة المتواترة ; لأنه لم يوجد في الكتاب ما يدل عليه ، وإن أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس بناء على السنة المتواترة ، فلما نسخ جاءهم منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : ( إن القبلة قد حولت ) [7] فاستداروا بخبره ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم ، فدل على الجواز .

          الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفذ الآحاد إلى أطراف البلاد لتبليغ الناسخ والمنسوخ ، ولولا قبول خبر الواحد في ذلك لما كان قبوله واجبا . وأما المعنى فمن وجهين :

          الأول : أن النسخ أحد البيانين فكان جائزا بخبر الواحد كالتخصيص .

          الثاني : أن نسخ القرآن بخبر الواحد جائز على ما سيأتي بيانه ، فنسخ السنة المتواترة به أولى .

          [8] [ ص: 149 ] ولقائل أن يقول : أما قصة أهل قباء فمن أخبار الآحاد ، ولا نسلم ثبوت مثل هذه القاعدة به ، كيف وإنه يحتمل أن يكون قد اقترن بقوله قرائن أوجبت العلم بصدقه من قربهم من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماعهم لضجة الخلق في ذلك فكان نازلا منزلة الخبر المتواتر .

          [9] وأما تنفيذ الآحاد للتبليغ فإنما يجوز فيما يقبل فيه خبر الواحد وما لا فلا .

          [10] وما ذكروه من المعنى الأول فحاصله يرجع إلى قياس النسخ على التخصيص ، وهو إنما يفيد في الأمور الظنية فلم قالوا : إن ما نحن فيه من هذا القبيل .

          [11] كيف والفرق حاصل ، وذلك أن النسخ رفع لما ثبت بخلاف التخصيص على ما سبق معرفته [12] فلم قالوا : بأنه إذا قبل خبر الواحد فيما لا يقتضي الرفع لما ثبت ؛ يقبل في رفع ما ثبت .

          وأما المعنى الثاني : فلا نسلم صحة نسخ القرآن بخبر الواحد على ما يأتي .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية