الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : ( والعمرى جائزة للمعمر له حال حياته ولورثته من بعده ) لما روينا . ومعناه أن يجعل داره له عمره . وإذا مات ترد عليه فيصح التمليك ، ويبطل الشرط لما روينا وقد بينا أن الهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة ( والرقبى باطلة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله . وقال أبو يوسف : جائزة ) ; لأن قوله داري لك تمليك . وقوله رقبى شرط فاسد كالعمرى . ولهما { أنه عليه الصلاة والسلام أجاز العمرى ورد الرقبى } ولأن معنى الرقبى عندهما إن مت قبلك فهو لك ، واللفظ من المراقبة كأنه يراقب موته ، وهذا تعليق التمليك بالخطر فبطل . وإذا لم تصح تكون عارية عندهما ; لأنه يتضمن إطلاق الانتفاع به .

التالي السابق


( قوله : وقال أبو يوسف جائزة ; لأن قوله داري لك تمليك وقوله رقبى شرط فاسد كالعمرى ) قال صاحب العناية في شرح هذا المقام : وعند أبي يوسف جائزة ; لأن قوله داري لك هبة وقوله رقبى شرط فاسد ; لأنه تعليق بالخطر إن كان الرقبى مأخوذا من المراقبة ، وإن كان مأخوذا من الإرقاب فكأنه قال رقبة داري لك فصار كالعمرى . انتهى .

أقول : في الصورة الثانية بحث ، إذ على تقدير أن يكون معنى قوله داري لك رقبى عند كون الرقبى مأخوذا من الرقبة رقبة داري لك لا يثبت قوله : وقوله رقبى شرط فاسد إذ لا فساد ; لأن يقال رقبة داري لك في شيء كما ترى ولا يتم قوله : فصار كالعمرى كما لا يخفى ( قوله : ولأن معنى الرقبى عندهما إن مت قبلك فهو لك ، واللفظ من المراقبة إلخ ) قال صاحب العناية : يشير إلى أن أبا يوسف قال بجوازها لا بهذا التفسير بل بتفسير آخر ، وهو أن يجعلها من الرقبة كما ذكرنا . وقيل عليه إن اشتقاق الرقبى من الرقبة مما لم يقل به أحد ، وإبداع الشيء في اللغة بعد استقرارها [ ص: 56 ] لأجل ما عنه مندوحة ليس بمستحسن . إلى هنا كلامه .

أقول : لا شك أن المصنف يشير بقوله المذكور إلى أن أبا يوسف قال بجوازها لا بهذا التفسير بل بتفسير آخر . ولكن ليس مراده بتفسير آخر ما ذكره الشارح المزبور وهو أن يجعلها من الرقبة حتى يتجه عليه أن اشتقاق الرقبى من الرقبة مما لم يقل به أحد ، بل مراده بذلك ما نبه عليه صاحب الكافي وجمهور الشراح بقولهم : وحاصل الاختلاف بينهم راجع إلى تفسير الرقبى مع اتفاقهم أنها من المراقبة . فحمل أبو يوسف هذا اللفظ على أنه تمليك للحال مع انتظار الواهب في الرجوع ، فالتمليك جائز وانتظار الرجوع باطل كما في العمرى وقالا : المراقبة في نفس التمليك ; لأن معنى الرقبى هذه الدار لآخرنا موتا كأنه يقول : أراقب موتك وتراقب موتي فإن مت قبلك فهي لك وإن مت قبلي فهي لي ، فكان هذا تعليق التمليك ابتداء بالخطر ، وهو موت المالك قبله وذا باطل . انتهى قولهم .

فعلى هذا لا يتجه عليه أصلا ما ذكره صاحب العناية بقوله : وقيل عليه إن اشتقاق الرقبى من الرقبة مما لم يقل به أحد إلخ كما لا يخفى . ثم إن صاحب غاية البيان قال في هذا المقام : وعندي قول أبي يوسف أصح ، إذ غاية ما في الباب أن يقال الشرط فاسد ، ولا يلزم من فساد الشرط فساد الهبة ; لأن الهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة كما في العمرى انتهى . أقول : فيه نظر ; لأن الهبة إنما لا تبطل بالشروط الفاسدة إذا لم يمنع الشرط ثبوت التمليك ابتداء ، وأما إذا منع ذلك فلا مجال لأن لا تبطل الهبة به لضرورة امتناع تحقق الهبة بدون تحقق التمليك ، وفيما نحن فيه يمنع الرقبى ثبوت التمليك ابتداء على تفسيرهما إياها كما تحققته آنفا ويؤيد هذا ما ذكره صاحب الكافي حيث قال : وصح العمرى للمعمر له حال حياته ولورثته من بعده ، ولو قال داري لك رقبى أو حبيس فهو باطل عند محمد [ ص: 57 ] وأبي حنيفة خلافا لأبي يوسف .

والأصل أن الشرط في الهبة إذا كان يمنع ثبوت الملك للحال يمنع صحة الهبة ، وإن كان لا يمنع ذلك صحت الهبة ويبطل الشرط ، ثم تفسير العمرى أن يقول : جعلت هذه الدار لك عمرك فإذا مت فهي رد علي فيصح الهبة ; لأن هذا الشرط لا يمنع أصل التمليك . وتفسير الحبيس أن يقول : هي حبيس عندي ، فإن مت فهي لك . وتفسير الرقبى أن يقول : هذه الدار لآخرنا موتا ، وهي من المراقبة ; لأن كل واحد منهما يراقب موت صاحبه كأنه يقول : أراقب موتك وتراقب موتي فإن مت فهي لك وإن مت فهي لي فهي باطلة ; لأن هذا الشرط يمنع ثبوت الملك للحال ، إلى هنا كلامه فاضمحل ما قاله صاحب العناية .




الخدمات العلمية