الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 147 ] قال : ( وتفسخ الإجارة بالأعذار ) عندنا . وقال الشافعي رحمه الله : لا تفسخ إلا بالعيب ; لأن المنافع عنده بمنزلة الأعيان حتى يجوز العقد عليها فأشبه البيع . ولنا أن المنافع غير مقبوضة وهي المعقود عليها فصار العذر في الإجارة كالعيب قبل القبض في البيع فتنفسخ به ، إذ المعنى يجمعهما وهو عجز العاقد عن المضي في موجبه إلا بتحمل ضرر زائد لم يستحق به ، وهذا هو معنى العذر عندنا ( وهو كمن استأجر حدادا ليقلع ضرسه لوجع به فسكن الوجع أو استأجر طباخا ليطبخ له طعام الوليمة فاختلعت منه تفسخ الإجارة ) ; لأن في المضي عليه إلزام ضرر زائد لم يستحق بالعقد ( وكذا من استأجر دكانا في السوق ليتجر فيه فذهب ماله ، وكذا من أجر دكانا أو دارا ثم أفلس ، ولزمته ديون لا يقدر على قضائها إلا بثمن ما أجر فسخ القاضي العقد وباعها في الديون ) ; لأن في الجري على موجب العقد إلزام ضرر زائد لم يستحق بالعقد وهو الحبس ; لأنه قد لا يصدق على عدم مال آخر .

ثم قوله فسخ القاضي العقد إشارة إلى أنه يفتقر إلى قضاء القاضي [ ص: 148 ] في النقض ، وهكذا ذكر في الزيادات في عذر الدين ، وقال في الجامع الصغير : وكل ما ذكرنا أنه عذر فإن الإجارة فيه تنتقض ، وهذا يدل على أنه لا يحتاج فيه إلى قضاء القاضي .

ووجهه أن هذا بمنزلة العيب قبل القبض في المبيع على ما مر فينفرد العاقد بالفسخ . ووجه الأول أنه فصل مجتهد فيه فلا بد من إلزام القاضي ، ومنهم من وفق فقال : إذا كان العذر ظاهرا لا يحتاج إلى القضاء لظهور العذر ، وإن كان غير ظاهر كالدين يحتاج إلى القضاء لظهور العذر ( ومن استأجر دابة ليسافر عليها ثم بدا له من السفر فهو عذر ) ; لأنه لو مضى على موجب العقد يلزمه ضرر زائد ; لأنه ربما يذهب للحج فذهب وقته أو لطلب غريمه فحضر أو للتجارة فافتقر ( وإن بدا للمكاري فليس ذلك بعذر ) ; لأنه يمكنه أن يعقد ويبعث الدواب على يد تلميذه أو أجيره ( ولو مرض المؤاجر فقعد فكذا الجواب ) على رواية الأصل .

وروى الكرخي عن أبي حنيفة أنه عذر ; لأنه لا يعرى عن ضرر فيدفع عنه عند الضرورة دون الاختيار ( ومن آجر عبده ثم باعه فليس بعذر ) ; لأنه لا يلزمه الضرر بالمضي على موجب عقد ، وإنما يفوته الاسترباح وأنه أمر زائد ( وإذا استأجر الخياط غلاما فأفلس وترك العمل فهو العذر ) ; لأنه يلزمه الضرر بالمضي على موجب العقد لفوات مقصوده وهو رأس ماله ، وتأويل المسألة خياط يعمل لنفسه ، أما الذي يخيط بأجر فرأس ماله الخيط والمخيط والمقراض فلا يتحقق الإفلاس فيه .

( وإن أراد ترك الخياطة ، وأن يعمل في الصرف فليس بعذر ) ; لأنه يمكنه أن يقعد الغلام للخياطة في ناحية ، وهو يعمل في الصرف في ناحية ، وهذا بخلاف ما إذا استأجر دكانا للخياطة فأراد أن يتركها ويشتغل بعمل آخر حيث جعله عذرا ذكره في الأصل ; لأن الواحد لا يمكنه الجمع بين العملين ، أما هاهنا العامل شخصان فأمكنهما ( ومن استأجر غلاما يخدمه في المصر ثم سافر فهو عذر ) ; لأنه لا يعرى عن إلزام ضرر زائد ; لأن خدمة السفر أشق ، [ ص: 149 ] وفي المنع من السفر ضرر ، وكل ذلك لم يستحق بالعقد فيكون عذرا ( وكذا إذا أطلق ) لما مر أنه يتقيد بالحضر ، بخلاف ما إذا آجر عقارا ثم سافر ; لأنه لا ضرر إذ المستأجر يمكنه استيفاء المنفعة من المعقود عليه بعد غيبته ، حتى لو أراد المستأجر السفر فهو عذر لما فيه من المنع من السفر أو إلزام الأجر بدون السكنى وذلك ضرر .

التالي السابق


( قوله : ولنا أن المنافع غير مقبوضة ، وهي المعقود عليها ، فصار العذر في الإجارة كالعيب قبل القبض في البيع فتفسخ به إلخ ) قال ابن العز : القول بفسخ الإجارة بالأعذار ، وموت أحد المتعاقدين من غير نص ولا إجماع ولا قول صحابي بل بمجرد الاعتبار بالفسخ بالعيب فيه نظر فإنه عقد لازم ، ولا زالت الأعذار تحدث في عقود الإجارات ، وقد يموت أحد المتعاقدين قبل انقضاء المدة ، ولم ينقل عن الصحابة الفسخ بذلك ، ولو كانت الإجارة تقبل الفسخ بذلك لنقل لتوفر الهمم على نقل مثله لاحتياج الناس إليه ، وقد نقل عنهم ما هو دون ذلك . وجمهور العلماء على القول بعدم الفسخ للعذر ، وإن كانوا قد اعتبروا العذر الكامل فيما لو اكترى من يقلع ضرسه فبرئ وانقلع قبل قلعه أو اكترى كحالا ليكحل عينه فبرئت أو ذهبت فلا يقاس عليه ما هو دونه . إلى هنا كلامه .

أقول : نظره ساقط جدا ، إذ لا يلزم من أن لا يتحقق نص ولا إجماع ولا قول صحابي في حق فسخ الإجارة بالأعذار أن لا يصح القول بذلك ، فإن القياس أحد الأدلة الشرعية الأربعة على ما تقرر في علم الأصول ، فيكفي تحقق ذلك في إثبات حكم شرعي ، وقد تحقق فيما نحن فيه كما أشار إليه المصنف بقوله فصار العذر في الإجارة كالعيب قبل القبض في البيع فتفسخ به . وبين الجامع بقوله : إذ المعنى يجمعهما ، وهو عجز العاقد عن المضي في موجبه إلا بتحمل ضرر زائد لم يستحق بالعقد ، وإنما لا يجوز الاستدلال بالقياس لورود نص يدل على خلاف ذلك ، أو انعقاد إجماع [ ص: 148 ] على خلاف ذلك ، ولم يقع شيء منهما فيما نحن فيه ، وكون عقد الإجارة عقدا لازما وكثرة حدوث الأعذار في عقود الإجارات مما لا يقدح أصلا في العمل بالقياس في حكم فسخ عقد الإجارة بالأعذار ، وكذا مجرد أن لا ينقل الفسخ بذلك عن الصحابة لا يقدح في صحة القياس عند تحقق شرائطه .

والحاصل أن جملة ما تشبث به في ترويج نظره هنا أضعف من بيت العنكبوت ، [ ص: 149 ] ثم إن ما ذكره كله منقوض بما اعترف به من أن العذر الكامل معتبر ، فإنه لم يرد في ذلك العذر أيضا نص ولم ينعقد عليه إجماع ولم ينقل عن الصحابة فيه شيء ، فالمدار في ذلك أيضا هو القياس .




الخدمات العلمية