الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ولا يضمن الغاصب منافع ما غصبه إلا أن ينقص باستعماله فيغرم النقصان ) [ ص: 355 ] وقال الشافعي : يضمنها ، فيجب أجر المثل ، ولا فرق في المذهبين بين ما إذا عطلها أو سكنها . وقال مالك : إن سكنها يجب أجر المثل ، وإن عطلها لا شيء عليه . له أن المنافع أموال متقومة حتى تضمن بالعقود فكذا بالغصوب . ولنا أنها حصلت على ملك الغاصب لحدوثها في إمكانه إذ هي لم تكن حادثة في يد المالك ; لأنها أعراض لا تبقى فيملكها دفعا لحاجته ، والإنسان لا يضمن ملكه ، كيف وأنه لا يتحقق [ ص: 356 ] غصبها وإتلافها ; لأنه لا بقاء لها ، ولأنها لا تماثل الأعيان لسرعة فنائها وبقاء الأعيان ، [ ص: 357 ] وقد عرفت هذه المآخذ في المختلف ، ولا نسلم أنها متقومة في ذاتها ، بل تقوم ضرورة عند ورود العقد ولم يوجد العقد ، إلا أن ما انتقص باستعماله مضمون عليه لاستهلاكه بعض أجزاء العين .

التالي السابق


( قوله ولنا أنها حصلت على ملك الغاصب لحدوثها في إمكانه ، إذ هي لم تكن حادثة في يد المالك ; لأنها أعراض لا تبقى فيملكها دفعا لحاجته والإنسان لا يضمن ملكه ) لقائل أن يقول : مقتضى هذا الدليل أن لا تجب الأجرة على المستأجر فيما إذا حدثت المنافع في يده كما في استئجار الدور والأراضي والدواب ونحوها ; لأن الإنسان كما لا يضمن ملكه لا يجب عليه الأجرة بمقابلة ملكه مع أنه يجب عليه الأجرة في ذلك بالإجماع ، ولم أر أحدا حام حول جواب هذا الإشكال مع ظهور وروده إلا صاحب غاية البيان فإنه قال : والجواب عن مسألة الإيجاب .

قلنا : لا تجب الأجرة عندنا بمقابلة المنافع بل بمقابلة التمكين من جهة المالك ; لأنه لما لم يتمكن من استيفاء المنافع إلا بتمكنه كان ذلك طريقا للوصول إلى استيفاء المنافع فأعطى لما هو وسيلة إلى المنفعة حكم المنفعة في حق وجوب الأجرة باعتبار الحاجة ا هـ .

أقول : هذا الجواب وإن كان يصلح أن يكون مخلصا هاهنا إلا أنه يستدعي ترك ظاهر كثير مما ذكروا في كتاب الإجارات ، كقولهم الإجارة تمليك النافع بعوض ، وقولهم والقياس يأبى جوازها ; لأن المعقود عليه المنفعة وهي معدومة ، وقولهم وتنعقد الإجارة ساعة فساعة على حسب حدوث المنافع ; لأن المعاوضة تقتضي التساوي ، والملك في المنفعة التي هي المعقود عليه يقع ساعة فساعة على حسب حدوثها فكذا في بدلها وهو الأجرة ، وقولهم والدار أقيمت مقام المنفعة في حق إضافة العقد إليها ليرتبط الإيجاب بالقبول ثم عمله يظهر في حق المنفعة ملكا واستحقاقا حال وجوب المنفعة ، إلى غير ذلك من الأقوال الدالة على كون الأجرة بمقابلة المنافع ، ولعل تأويل كلها متعسر بل متعذر تأمل تقف .

ثم أقول : الأولى في الجواب عندي أن يقال : اقتضاء الدليل المذكور عدم وجوب الأجرة على المستأجر فيما إذا حدثت المنافع في يده إنما هو على موجب القياس ، وقد تقرر في أول كتاب الإجارات أن القياس يأبى جوازها ، إلا أنها جوزت على خلاف القياس بالنص استحسانا لحاجة الناس إليها ، وأن جوازها عندنا باعتبار إقامة العين التي هي لوجود المنفعة كالدار مثلا مقام [ ص: 356 ] المنفعة في حق صحة الإيجاب والقبول ، فيجوز في الإجارة أن تجب الأجرة على المستأجر بمقابلة المنافع التي حصلت على ملكه بحدوثها في يده إذا وقع التراضي عليه باعتبار إقامة العين التي هي ملك المؤجر وسبب لوجود المنفعة مقام المنفعة على موجب الاستحسان بالنص ، بخلاف الغصب فإنه غير جائز قياسا واستحسانا فلا يرتكب فيه ما يخالف القياس فتدبر ( قوله : ولأنها لا تماثل الأعيان لسرعة فنائها وبقاء الأعيان ) أقول : لقائل أن يقول : هذا الدليل إنما يدل على أن منافع المغصوب لا تضمن بالأعيان لعدم المماثلة بينهما ، ولا يدل على أنهما لا تضمن بالمنافع المماثلة لها والمدعى عدم مضمونيتها أصلا فلا يتم التقريب .

ويمكن الجواب عنه بأن مبنى تقرير المصنف هذا الدليل على الوجه المزبور تقرر عدم مضمونيتها بالمنافع بالإجماع ، فكأنه لم يتعرض لنفي هذا الاحتمال لظهوره ، يرشد إلى ذلك تقرير صاحب الكافي هذا الدليل حيث قال : ولئن سلمنا تصور غصبها فلا يمكن تضمنها ; لأنها لو صارت مضمونة على الغاصب فإما أن تضمن بالمنافع وهو باطل ولم يقل به أحد ، أو بالأعيان وهو باطل أيضا ; لأنها لا تماثل الأعيان ; لأن المنافع أعراض لا تبقى وقتين والعين تبقى أوقاتا . وبين ما يبقى وما لا يبقى تفاوت عظيم ، وضمان العدوان مبني على المماثلة بالنص والإجماع ، ويرشد إليه أيضا تقرير صاحب غاية البيان ذلك الدليل حيث قال : ولأن المنافع لو كانت مضمونة على الغاصب لا يخلو إما أن تكون مضمونة بأمثالها من المنافع ، أو بغيرها من الأعيان كالدراهم والدنانير فلا يجوز أن تكون مضمونة بالأمثال وهي المنافع ; لأنه لا قائل بذلك ، ولا يجوز أن تكون مضمونة بالأعيان لعدم المماثلة ، والمماثلة شرط في ضمان العدوان بقوله تعالى { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ا هـ . قال صاحب العناية : واعترض بما إذا أتلف ما يسرع إليه الفساد فإنه يضمنه بالدراهم التي تبقى ، فدل على أن المماثلة من حيث الفناء والبقاء غير معتبرة ، وبما إذا استأجر الوصي لليتيم ما يحتاج إليه بدراهم اليتيم فإنه جائز لا محالة ، ولو كان ما ذكرتم صحيحا لما جاز ; لأن القربان إلى مال اليتيم لا يجوز إلا بالوجه الأحسن .

وأجيب عن الوجه الأول بأن المماثلة المعتبرة هي ما تكون بين باق وباق لا بين باق وأبقى فكان السؤال غير وارد ، وهذا راجع إلى أنها تعتبر بين جوهرين لا بين جوهر وعرض ، ألا يرى أن بيع الثياب بالدراهم جائز وإن كان أحدهما يبلى دون الآخر ، وعن الثاني بما ذكرنا أن شراء الثياب بدراهم اليتيم جائز للوصي مع وجود التفاوت كما ذكرنا ، فدل على أن القربان بالأحسن في مال اليتيم هو ما لا يعد عيبا في التصرفات ا هـ كلامه . أقول : فيما ذكره في كل من الجوابين شيء . أما في الأول ; فلأن تنويره بقوله ألا يرى أن بيع الثياب بالدراهم جائز وإن كان أحدهما يبلى دون الآخر ليس بصحيح ; لأن جواز نوع من التفاوت بين البدلين في البيع لا يدل على جواز ذلك في ضمان العدوان ; لأن للعقد والرضا تأثيرا في تجويز كثير من التفاوت ، وعن هذا قالوا : يجوز بيع عبد قيمته ألف بألوف ولا يجوز ذلك التفاوت في ضمان العدوان قطعا ، ألا يرى أن التفاوت بين جوهر وعرض يجوز أيضا بالعقد كما إذا استأجر منفعة دار مثلا بدراهم معينة مع أن المماثلة المعتبرة في ضمان العدوان لا تتصور بين جوهر وعرض كما صرحا به .

وأما في الثاني ; فلأن جواز شراء الثياب بدراهم اليتيم للوصي لا يدل على جواز استئجار الوصي لليتيم ما يحتاج إليه بدراهمه ; لأن التفاوت في الأول بين جوهر وجوهر وهو تفاوت غير فاحش ، والتفاوت في الثاني بين جوهر وعرض وهو تفاوت فاحش ، ولا شك أن جواز تصرف الوصي في مال اليتيم بالتفاوت الغير الفاحش لا يدل على جواز تصرفه بالتفاوت الفاحش ، ألا يرى أن التفاوت الفاحش الذي بين جوهر وعرض يمنع المماثلة المعتبرة في ضمان العدوان دون التفاوت الغير الفاحش الذي بين جوهر وجوهر ، فلم لا يجوز أن يكون الأمر في تصرف [ ص: 357 ] الوصي في مال اليتيم أيضا كذلك ؟ فمن أين ثبتت دلالة جواز شراء الثياب بدراهم اليتيم للوصي على أن القربان بالأحسن في مال اليتيم هو مجرد ما لا يعد عيبا في التصرفات . نعم يجوز أن يكون المراد بالقربان الأحسن في قوله تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ذلك المعنى لكنه إنما يعرف بدليل آخر لا بما ذكر من جواز شراء الثياب بدراهم اليتيم للوصي .

( قوله وقد عرفت هذه المآخذ في المختلف ) قال صاحب العناية في تفسير هذه المآخذ : أي العلل التي هي مناط الحكم ، ما ذكره أولا بقوله ; لأنها حصلت في ملك الغاصب ، وثانيا بقوله إنها لا يتحقق غصبها وإتلافها ، وثالثا بقوله : لأنها لا تماثل الأعيان إلخ ا هـ .

أقول : فيه نوع خلل ; لأنه قال : أو ما ذكره ، بكلمة أو وهي لأحد الأمرين ، ولا شك أن العلل التي كانت مناط الحكم هاهنا وأشار إليه المصنف بهذه المآخذ هي ما ذكره أولا وثانيا وثالثا بأقواله المزبورة لا أمر آخر ، فكيف يصح العطف بكلمة أو .

وقال صاحب الغاية هاهنا : أراد بالمآخذ العلل التي هي مناط الحكم ، وأراد بالمآخذ ما ذكره أولا بقوله إنها حصلت في ملك الغاصب وثانيا إنها لا يتحقق غصبها وإتلافها وثالثا إنها لا تماثل الأعيان ، والشرط في ضمان العدوان المماثلة بالنص ا هـ .

أقول : يرد على ظاهره أن العلل التي هي مناط الحكم هاهنا هي ما ذكره المصنف أولا وثانيا وثالثا بعينه كما عرفته آنفا ، فما معنى قول هذا الشارح أراد بالمآخذ هذا وأراد بها ذاك ، والعطف يقتضي التغاير بين المعطوفين ، لكن يمكن توجيهه بأن يكون مقصوده بقوله أراد بالمآخذ العلل التي هي مناط الحكم تفسير معنى المآخذ هاهنا ، وبقوله وأراد بالمآخذ ما ذكره إلخ تفسير ما صدق عليه المآخذ هاهنا وتعينه ، فكأنه قال : أراد بمعنى المآخذ هاهنا هذا وأراد بما صدق عليه المآخذ هاهنا ذاك ، والمغايرة بين المفهوم وما صدق عليه ظاهره فيصح العطف ، إلا أنه لو قال في الثاني وأراد بهذه المآخذ ما ذكره إلخ لكان أحسن لكونه أدل على إرادة ما صدق عليه المآخذ كما لا يخفى على الفطن . ثم أقول : بقي في هذا المقام بحث قوي ، وهو أنه قد صرح في معتبرات الفتاوى بأن منافع الغصب مضمونة عندنا أيضا في الوقف ومال اليتيم وما كان معدا للإجارة مع أن العلل المذكورة التي هي مناط الحكم بعدم ضمان منافع الغصب جارية بعينها في تلك الصور أيضا . فإن قلت : العلل المذكورة على وفق القياس والقول بضمان المنافع في تلك الصور موجب الاستحسان نظرا للوقف ومال اليتيم ونحو ذلك ، ويجوز ترك القياس بالاستحسان . قلت : ذلك فيما يتصور ويمكن ، وتلك العلل بعضها يدل على عدم تصور الغصب والعدوان في المنافع ، وبعضها يدل على عدم إمكان تضمين المنافع بالأعيان لعدم المماثلة بينهما ، وبناء ضمان العدوان على المماثلة بالنص والإجماع ، فإجراء الاستحسان في خلاف ذلك مشكل جدا .




الخدمات العلمية