الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وإن كاتب مدبرته جاز ) لما ذكرنا من الحاجة ولا تنافي ، إذ الحرية غير ثابتة ، وإنما الثابت مجرد الاستحقاق ( وإن مات المولى [ ص: 188 - 189 ] ولا مال له غيرها فهي بالخيار بين أن تسعى في ثلثي قيمتها أو جميع مال الكتابة ) وهذا عند أبي حنيفة .

وقال أبو يوسف : تسعى في أقل منهما . وقال محمد : تسعى في الأقل من ثلثي قيمتها وثلثي بدل الكتابة ، فالخلاف في الخيار والمقدار ، فأبو يوسف مع أبي حنيفة في المقدار ، ومع محمد في نفي الخيار . أما الخيار ففرع تجزؤ الإعتاق عنده لما تجزأ بقي الثلثان رقيقا وقد تلقاها جهتا حرية ببدلين معجل بالتدبير ومؤجل بالكتابة فتخير . وعندهما لما عتق كلها بعتق بعضها فهي حرة وجب عليها أحد المالين فتختار الأقل لا محالة فلا معنى للتخيير .

وأما المقدار فلمحمد رحمه الله أنه قابل البدل بالكل وقد سلم لها الثلث بالتدبير فمن المحال أن يجب البدل بمقابلته ، ألا ترى أنه لو سلم لها الكل بأن خرجت من الثلث يسقط كل بدل الكتابة فهنا يسقط الثلث وصار كما إذا تأخر التدبير عن الكتابة . ولهما أن جميع البدل مقابل بثلثي رقبتها فلا يسقط منه شيء ، وهذا لأن البدل وإن قوبل بالكل صورة وصيغة لكنه مقيد بما ذكرنا معنى وإرادة لأنها استحقت حرية الثلث ظاهرا ، [ ص: 190 ] والظاهر أن الإنسان لا يلتزم المال بمقابلة ما يستحق حريته وصار كما إذا طلق امرأته ثنتين ثم طلقها ثلاثا على ألف كان جميع الألف بمقابلة الواحدة الباقية لدلالة الإرادة ، كذا هاهنا ، بخلاف ما إذا تقدمت الكتابة وهي المسألة التي تليه لأن البدل مقابل بالكل إذ لا استحقاق عنده في شيء فافترقا قال ( وإن دبر مكاتبته صح التدبير ) لما بينا .

( ولها الخيار ، إن شاءت مضت على الكتابة ، وإن شاءت عجزت نفسها وصارت مدبرة ) لأن الكتابة ليست بلازمة في جانب المملوك ، فإن مضت على كتابتها فمات المولى ولا مال له غيرها فهي بالخيار إن شاءت سعت في ثلثي مال الكتابة أو ثلثي قيمتها عند أبي حنيفة . وقالا : تسعى في الأقل منهما ، فالخلاف في هذا الفصل في الخيار بناء على ما ذكرنا . أما المقدار فمتفق عليه ، ووجهه ما بينا .

التالي السابق


( قوله والإعتاق عنده لما تجزأ ) بقي الثلثان رقيقا وقد تلقاها جهتا حرية ببدلين معجل بالتدبير ( ومؤجل بالكتابة فتخير ) لأن في التخيير فائدة وإن كان جنس المال متحدا لجواز أن يكون أداء أكثر المالين أيسر باعتبار الأجل وأداء أقلهما أعسر لكونه حالا فكان التخيير مفيدا ، كذا في عامة الشروح .

وعزاه في معراج الدراية إلى مبسوط شيخ الإسلام . أقول : فيه شيء وهو أن الفائدة المذكورة إنما تتصور في صورة إن كان البدل المعجل بالتدبير أقل من البدل المؤجل بالكتابة .

وأما في العكس فلا ، إذ لا شك أن أداء الأقل المؤجل أيسر من كل وجه من أداء الأكثر المعجل ، فلا فائدة في التخيير في هذه الصورة أصلا لتعين اختيارها الأقل لا محالة كما قال صاحباه ، مع أن الحكم بالخيار يعم بالصورتين عنده كما هو الظاهر من إطلاق المسألة في الكتب بأسرها ( قوله وعندهما لما عتق كلها بعتق بعضها فهي حرة وجب عليها أحد المالين فتختار الأقل لا محالة فلا معنى للتخيير ) واعترض عليه بأن الإعتاق لما لم يتجزأ عندهما عتق كلها بالتدبير لعتق بعضها به وانفسخت الكتابة فوجب السعاية في ثلثي قيمتها لا غير .

وأجيب بأنا قد حكمنا بصحة الكتابة نظرا لها فتبقيتها لذلك فلربما يكون بدلها أقل فيحصل النظر بوجوبه ، كذا في العناية أخذا من شرح تاج الشريعة [ ص: 190 ] أقول : في الجواب إشكال ، لأن القول بإبقاء الكتابة فيها بعد أن عتق كلها بالتدبير ينافي قول المصنف ، وعندهما لما عتق كلها بعتق بعضها فهي حرة ، إذ الظاهر أن الحرية والكتابة لا يجتمعان في شخص واحد في حالة واحدة ، فأنى يتصور إبقاء الكتابة فيها بعد أن صارت حرة عندهما .

فإن قلت : المراد إبقاء حكم الكتابة لا إبقاء حقيقتها والمنافي للحرية هو الثاني دون الأول . قلت : لو أبقى حكم الكتابة لأبقى تأجيلها لأنه من خصائصها . ولهذا قال في الكافي في تقرير دليل الإمامين هنا . وعندهما لما عتق كله بعتق ثلثه لأن الإعتاق لا يتجزأ عندهما بطلت الكتابة وبطل الأجل لأنه من خصائص الكتابة وبقي أصل المال عليه غير مؤجل إلخ .

ولو أبقى تأجيلها لزم أن لا يتم قولهما فتختار الأقل لا محالة ، فلا معنى للتخيير لجواز أن تختار الأكثر المؤجل لكون أدائه أيسر من أداء الأقل المعجل كما مر في بيان دليل أبي حنيفة فيكون هذا هو المعنى للتخيير فلا تنقطع مادة الإشكال ( قوله والظاهر أن الإنسان لا يلتزم المال بمقابلة ما يستحق حريته ) أقول : لمانع أن يمنع هذه المقدمة ، فإنه لا يلزم من مجرد استحقاق الحرية حقيقة الحرية ، والثابت في المدبرة في الحال مجرد استحقاق الحرية دون حقيقتها فجاز أن يحتاج إلى استفادة حقيقتها عاجلا فتلتزم المال بمقابلتها ; ألا ترى أنه يجوز للمولى أن يكاتب أم ولده بالإجماع مع استحقاقها حرية الكل [ ص: 191 ] قطعا لعتقها عند موت مولاها من جميع المال دون ثلثه ، فإذا جاز التزام المال من أم الولد بمقابلة ما تستحق حريته كلا للاحتياج إلى استفادة الحرية قبل موت المولى كما مر ، فلأن جاز ذلك من المدبرة بمقابلة ما تستحق حريته بعضا لتلك العلة بعينها أولى كما لا يخفى فليتأمل .

واستشكل بعض الفضلاء هذا التعليل بوجه آخر حيث قال : لا يتمشى على أصل أبي يوسف فإنه استحق حرية الكل عنده لعدم تجزؤ الإعتاق ا هـ . أقول : ذاك ساقط لأنا لا نسلم أن المدبر والمدبرة يستحقان بالتدبير حرية الكل عنده ، بل الظاهر أنهما يستحقان به حرية الثلث عندهم جميعا ولهذا يعتقان عند موت المولى من ثلث ماله ويسعيان في ثلثهما إذا لم يكن له مال غيرهما بالإجماع ، وثبوت عتق الكل بعتق البعض عند موت المولى على أصل الإمامين وهو عدم تجزؤ الإعتاق لا ينافي استحقاق حرية الثلث بنفس التدبير عندهما أيضا .

ولئن سلم استحقاق المدبر والمدبرة بنفس التدبير حرية الكل عندهما فالمراد بقوله لأنها استحقت حرية الثلث ظاهرا هو أنها استحقتها مجانا من غير أن يلزمها سعاية في ذلك الثلث كما تلزمها في الثلثين الآخرين ، وبقوله والظاهر أن الإنسان لا يلتزم المال بمقابلة ما يستحق حريته هو أن الإنسان لا يلتزم المال بمقابلة ما يستحق حريته مجانا ، بخلاف ما لا يستحق حريته أو يستحقها ولكن يلزمه أداء مال السعاية فإنه يجوز له أن يلتزم المال بمقابلته .

ولا يخفى أن هذا المعنى يتمشى على أصل أبي حنيفة وأصل أبي يوسف أيضا تفكر تفهم .




الخدمات العلمية