الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم الإذن كما يثبت بالصريح يثبت بالدلالة ، كما إذا رأى عبده يبيع [ ص: 284 ] ويشتري فسكت يصير مأذونا عندنا خلافا لزفر والشافعي رحمهما الله . [ ص: 285 ] ولا فرق بين أن يبيع عينا مملوكا أو لأجنبي بإذنه أو بغير إذنه بيعا صحيحا أو فاسدا ; لأن كل من رآه يظنه مأذونا له فيها فيعاقده فيتضرر به لو لم يكن مأذونا له ، ولو لم يكن المولى راضيا به لمنعه دفعا للضرر عنهم . .

[ ص: 285 ]

التالي السابق


[ ص: 285 ] قوله ولا فرق بين أن يبيع عينا مملوكا للمولى أو لأجنبي بإذنه أو بغير إذنه بيعا صحيحا أو فاسدا ) قال الإمام الزيلعي في التبيين بعد أن قال مثل هذا : هكذا ذكر صاحب الهداية وغيره . وذكر قاضي خان في فتاواه : إذا رأى عبده يبيع عينا من أعيان المالك فسكت لم يكن إذنا . وكذا المرتهن إذا رأى الراهن يبيع الرهن فسكت لا يبطل الرهن ا هـ .

أقول : كأنه فهم المخالفة بين ما ذكره صاحب الهداية وغيره وبين ما ذكره قاضي خان في فتاواه ، وليس الأمر كما فهمه ، إذ الظاهر أن مراد الإمام قاضي خان أن سكوت المالك فيما إذا رأى عبده يبيع عينا من أعيان ماله لا يصير إذنا في حق ذلك التصرف الذي صادفه السكوت لا في حق سائر التصرفات ذلك العبد في باب التجارة مطلقا . ويرشد إليه قوله وكذا المرتهن إذا رأى الراهن يبيع الرهن فسكت لا يبطل الرهن ، فإن المراد هناك عدم صحة التصرف الذي صادفه السكوت بلا ريب ، ولا دلالة في كلام صاحب الهداية وغيره على كون السكوت إذنا في حق التصرف الذي صادفه السكوت فيما إذا باع عينا مملوكا للمولى بغير رضاه ، بل خلافه مصرح به في أكثر الشروح وعامة المعتبرات . قال في البدائع : وأما الإذن بطريق الدلالة فنحو أن يرى عبده يبيع ويشتري فلا ينهاه فيصير مأذونا في التجارة عندنا إلا في البيع الذي صادفه السكوت .

وأما في الشراء فيصير مأذونا ، وعند زفر والشافعي رحمهما الله لا يصير مأذونا ا هـ . وقال في المحيط البرهاني : قال محمد رحمه الله في الأصل : إذا نظر الرجل إلى عبده وهو يبيع ويشتري ولم ينه عن ذلك يصير العبد مأذونا في التجارة عند علمائنا الثلاثة ، وإذا رأى عبده يبيع عينا من أعيان ماله فسكت يصير مأذونا في التجارة ، ولكن لا يجوز بيعه مال المولى .

قال محمد رحمه الله : وهذا بمنزلة ما لو رأى المولى عبده المسلم يشتري شيئا بالخمر والخنزير فسكت يصير العبد مأذونا في التجارة وإن كان لا يجوز هذا الشراء كذا هاهنا ا هـ . فكيف يجوز حمل كلام قاضي خان في فتاواه على خلاف ما نص عليه محمد رحمه الله في الأصل بقوله وإذا رأى عبدا يبيع عينا من أعيان ماله فسكت يصير مأذونا في التجارة ، فالوجه أن يحمل على مضمون قوله ، ولكن لا يجوز بيعه مال المولى كما بيناه ( قوله لأن كل من رآه يظنه مأذونا له فيها فيعاقده فيتضرر به لو لم يكن مأذونا له ، ولو لم يكن المولى راضيا به لمنعه دفعا للضرر عنهم ) قال صاحب [ ص: 286 ] العناية في تفصيل هذا التعليل : وقلنا جعل سكوته حجة ; لأنه موضع بيان ، إذ الناس يعاملون العبد حين علمهم بسكوت المولى ومعاملتهم قد تفضي إلى لحوق ديون عليه ، وإذا لم يكن مأذونا تتأخر المطالبة إلى ما بعد العتق ، وقد يعتق وقد لا يعتق وفي ذلك إضرار بالمسلمين بإتواء حقهم ، ولا إضرار في الإسلام ، وليس للمولى فيه ضرر متحقق ; لأن الدين قد يلحقه وقد لا يلحقه ، [ ص: 287 ] فكان موضع بيان أنه راض به أولا ، والسكوت في موضع الحاجة إلى البيان بيان ا هـ .

واعترض بعض الفضلاء من جانب الخصم على قوله والناس يعاملون العبد حين علمهم بسكوت المولى حيث قال لهما أن يقولا ذلك لحماقة المعامل حيث اغتر بمجرد السكوت ولم يسأل من المولى ولذلك نظائر ا هـ . أقول : ليس هذا بوارد ; لأن المعامل لا يغتر بمجرد السكوت بل يعتمد على ما جرى عليه العرف من أن من لا يرضى بتصرف عبده ينهاه عنه ويؤدبه عليه .

وقد صرح به في الكافي وغيره حيث قالوا : ولنا أن العادة جرت بأن من لا يرضى بتصرف عبده ينهاه عنه ويؤدبه عليه ، فإذا لم ينه علم أنه راض فجعل سكوته إذنا دلالة دفعا للغرور عن الناس ، فإنهم يعتقدون ذلك إطلاقا منه فيبايعونه حملا لفعله على ما يقتضيه الشرع والعرف ، كما في سكوت النبي عليه الصلاة والسلام عند أمر يعاينه عن التغيير . وسكوت البكر وسكوت الشفيع ا هـ . فبعد ذلك كيف يحتاج المعامل إلى السؤال من المولى ، وكيف يحمل العاقل عدم سؤاله على حماقته ، وهلا تكون النظائر لما عامله دون خلافه ؟ ثم أقول : بقي شيء في تقرير صاحب العناية ، وهو أنه جعل ضرر المولى غير معتبر لكونه غير متحقق بناء على أن الدين قد يلحقه وقد لا يلحقه ، وجعل ضرر المسلمين معتبرا مع أنه أيضا غير متحقق بناء على أن الديون قد تلحقه وقد لا تلحقه .

فما الفرق والرجحان ؟ لا بد من البيان . ثم قال في العناية : فإن قيل : عين ذلك التصرف الذي رآه من البيع غير صحيح فكيف يصح غيره ، وكذا إذا رأى أجنبيا يبيع من ماله وسكت لم يكن إذنا ، والمرتهن إذا رأى الراهن يبيع الرهن وسكت لم يكن إذنا ، وإذا رأى رقيقه يزوج نفسه وسكت لم يكن إذنا ، فما الفرق ؟ أجيب بأن الضرر في التصرف الذي رآه متحقق بإزالة ملكه عما يبيعه في الحال فلا يثبت بالسكوت ، وليس في ثبوت الإذن في غيره ذلك لما قلنا إن الدين قد يلحقه وقد لا يلحقه ، ولا يلزم من كون السكوت إذنا بالنظر إلى ضرر متوهم كونه إذنا بالنظر إلى متحقق ، وهو الجواب عن بيع الأجنبي ماله ، وفي الرهن لم يصر سكوته إذنا ; لأن جعله إذنا يبطل ملك المرتهن عن اليد ، وقد لا يصل إلى يده من محل آخر فكان في ذلك ضرر متحقق .

لا يقال : الراهن أيضا يتضرر ببطلان ملكه عن الثمن ، فترجيح ضرر المرتهن تحكم ; لأن بطلان ملكه عن الثمن موقوف ; لأن بيع المرهون موقوف على ظاهر الرواية ، وبطلان ملك المرتهن عن اليد بات فكان أقوى . وأما الرقيق عبدا كان أو أمة إذا زوج نفسه فإنما لم يصر السكوت فيه إذنا .

قال بعض الشارحين ناقلا عن مبسوط شيخ الإسلام ; لأن السكوت إنما يصير إذنا وإجازة دفعا للضرر ، ولا ضرر على أحد في نكاح العبد والأمة ; لأن النكاح يكون موقوفا ; لأن نكاح المملوك مملوك المولى لما فيه من إصلاح ملكه ، ومنافع بضع المملوكة كذلك ، وليس لأحد إبطال ملكه بغير رضاه فكان موقوفا ، وأمكن فسخه فلا يتضرر به أحد . وقيل : فيه نظر ; لأنه لا كلام في أن نكاح الرقيق موقوف على إذن المولى وإجازته ، وإنما هو أن سكوته إجازة أو لا ، ولعل الصواب أن يقال : إن في ذلك ضررا محققا للمولى فلا يكون السكوت إذنا ، إلى هنا لفظ العناية . وقال بعض الفضلاء : وعندي أن النظر غير وارد ; لأن كون السكوت إذنا كان لأجل دفع الضرر فحيث لا ضرر يبقى على القياس ولا يجعل إذنا ا هـ .

أقول : كأنه لم يفهم مراد من أورد النظر ، إذ لا كلام في أن كون السكوت إذنا كان لأجل دفع الضرر ، وإنما هو في أن نكاح الرقيق هل فيه ضرر أم لا ، إذ لا شك أنه موقوف على إذن المولى ، فإن كان سكوته إذنا تحقق الضرر فيه وإلا فلا [ ص: 288 ] فحيث احتمل أن يكون سكوته إذنا في صورة تزويج الرقيق نفسه لم يفد كون نكاحه موقوفا على إذنه عدم ثبوت الضرر فيها وإن بنى عدم ثبوت الضرر فيها على عدم كون سكوته فيها إذنا لزم المصادرة ، إذ هو أول الكلام الذي طولب الفرق بينه وبين ما نحن فيه في أصل السؤال ، وهذا هو المراد بقوله في النظر وإنما هو في أن سكوته إجازة أو لا ، تأمل تقف




الخدمات العلمية