الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3966 3967 ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ربيع المؤذن ، قال: ثنا أسد ، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر -رضي الله عنه-: " أن رسول الله -عليه السلام- لما أتى المزدلفة صلى المغرب بأذان . وإقامة".

                                                ففي هذا الحديث أن رسول الله -عليه السلام- لما أتى المزدلفة صلى المغرب بأذان وإقامة، وهذا خلاف ما روى مالك بن الحارث عن ابن عمر، وقد أجمعوا أن الأولى من الصلاتين اللتين تجمعان بعرفة يؤذن لها ويقام، فالنظر على ذلك: أن يكون كذلك حكم الأول من الصلاتين اللتين تجمعان بجمع.

                                                حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب ، قال: ثنا مالك ، عن موسى بن عقبة ، عن كريب مولى عبد الله بن عباس ، عن أسامة بن زيد ، أنه سمعه يقول: " دفع رسول الله -عليه السلام- من عرفة، ، حتى إذا كان بالشعب نزل فبال، ثم توضأ فلم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة، فقال: الصلاة أمامك، فركب حتى جاء المزدلفة، فنزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها، ولم يصل بينهما شيئا".

                                                [ ص: 19 ] فقد اختلف عن النبي -عليه السلام- في الصلاتين بمزدلفة: : هل صلاهما معا أو عمل بينهما عملا؟ فروي في ذلك ما قد ذكرنا في حديث ابن عمر 5 وأسامة. .

                                                واختلف عنه: كيف صلاهما؟ فقال بعضهم: بأذان وإقامة، وقال بعضهم: بأذان وإقامتين، وقال بعضهم: بإقامة واحدة ليس معهما أذان.

                                                فلما اختلفوا في ذلك على ما ذكرنا، وكانت الصلاتان يجمع بينهما بمزدلفة ، وهما المغرب والعشاء، كما يجمع بين الصلاتين بعرفة ، وهما الظهر والعصر، فكان هذا الجمع في هذين الموطنين جميعا لا يكون إلا لمحرم في حرمة الحج، ، فلا يكون لحلال، ولا لمعتمر غير حاج، وكانت الصلاتان بعرفة تصلى إحداهما في إثر صاحبتها، ولا يعمل بينهما عمل، وكانتا يؤذن لهما أذان واحد وتقام لهما إقامتان، كان النظر على ذلك أن تكون الصلاتان بمزدلفة كذلك، وأن تكون إحداهما تصلى في إثر صاحبتها ولا يعمل بينهما عمل، وأن يؤذن لهما أذان واحد ويقام لهما إقامتان كما يفعل بعرفة سواء، هذا هو النظر في هذا الباب.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من أن الصلاتين يجمع بينهما بمزدلفة بأذانين وإقامتين بحديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-.

                                                أخرجه بإسناد صحيح، وقد تكرر ذكره في كتاب الحج.

                                                وجعفر بن محمد هو جعفر الصادق، وأبوه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- المعروف بابن الحنفية .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا حاتم بن إسماعيل ، عن جعفر ، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: "صلى رسول الله -عليه السلام- المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامة ولم يسبح بينهما".

                                                [ ص: 20 ] قوله: "وهذا خلاف ما روى مالك بن الحارث عن ابن عمر". لأن في حديثه يخبر أن رسول الله -عليه السلام- صلى المغرب بالمزدلفة بإقامة ليس معها أذان، فبين الروايتين مخالفة.

                                                "وقد أجمعوا" أي: أهل المقالات المذكورة.

                                                "أن الأولى من الصلاتين اللتين تجمعان بعرفة" أراد بها الظهر، يؤذن لها ويقام، فالنظر والقياس على ذلك أن يكون كذلك حكم المغرب في مزدلفة.

                                                ثم ذكر حديث أسامة الذي بينه وبين حديث ابن عمر خلاف أيضا؛ لكونه شاهدا لما يذكره من وجه النظر، وتأييدا لما يختاره من الأقوال.

                                                وأخرجه بإسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح.

                                                وأخرجه الجماعة غير الترمذي .

                                                فقال البخاري: ثنا قتيبة، ثنا إسماعيل بن جعفر ، عن محمد بن حرملة ، عن كريب مولى ابن عباس ، عن أسامة بن زيد أنه قال: "ردفت رسول الله -عليه السلام- من عرفات، فلما بلغ رسول الله -عليه السلام- الشعب الأيسر الذي دون المزدلفة أناخ، فبال، ثم جاء فصببت عليه الوضوء، فتوضأ وضوءا خفيفا، فقلت: الصلاة يا رسول الله، فقال: الصلاة أمامك، فركب رسول الله -عليه السلام- حتى أتى المزدلفة فصلى، ثم ردف الفضل رسول الله غداة جمع، قال كريب: فأخبرني عبد الله بن عباس ، عن الفضل أن رسول الله -عليه السلام- لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة".

                                                وفي لفظ: "ثم أتى المزدلفة فجمع بين المغرب والعشاء".

                                                وقال مسلم: ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك ، عن موسى بن عقبة ، عن كريب ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي .

                                                [ ص: 21 ] وقال أبو داود: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا زهير .

                                                وثنا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان -وهذا لفظ حديث زهير- قال: ثنا إبراهيم بن عقبة، قال: حدثني كريب: "أنه سأل أسامة بن زيد، قلت: أخبرني كيف فعلتم -أو صنعتم- عشية ردفت رسول الله -عليه السلام-؟ قال: جئنا الشعب الذي ينيخ فيه الناس للمعرس، فأناخ رسول الله -عليه السلام- ناقته، ثم هراق ماء -قال زهير: أهراق الماء- ثم دعا بالوضوء فتوضأ وضوءا ليس بالبالغ جدا، فقلت: يا رسول الله، الصلاة، قال: الصلاة أمامك، قال: فركب حتى قدمنا المزدلفة، فأقام المغرب، ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام العشاء فصلى -زاد ابن يونس في حديثه: ثم حل الناس- قال: قلت: كيف فعلتم حين أصبحتم؟ قال: ردفه الفضل بن عباس فانطلقت أنا في سباق قريش على رجلي".

                                                وأخرجه النسائي وابن ماجه مختصرا.

                                                قوله: "حتى إذا كان بالشعب" بكسر الشين المعجمة وسكون العين، وهو الطريق في الجبل، ويقال: هو ما انفرج بين الجبلين. ونزوله -عليه السلام- بالشعب كان نزول حاجة وليس هو من سنن الحج.

                                                قوله: "فبال" ولم يقل فأهراق الماء؛ إشعارا بإيراده للحديث كما سمعه بلفظ محدثه إياه، وأنه لم يورد بمعناه.

                                                قوله: "فلم يسبغ الوضوء" وفي حديث آخر: "فتوضأ وضوءا خفيفا" وفي حديث آخر: "ليس بالبالغ"، وجاء بعد هذا: "فأسبغ الوضوء"، قال القاضي: يوهم لفظه: "لم يسبغ" أن الأول لم يكن وضوء الصلاة، وكذلك تأوله بعضهم، وقيل: بل وضأ بعض أعضاء وضوئه، وليس كذلك، بل كان وضوءه الأول

                                                [ ص: 22 ] للصلاة ثم توضأ آخر بالمزدلفة لعذر طرأ عليه، وليس يقال في الاستنجاء: وضوءا خفيفا، ولا: ليس [بالبالغ] ومعنى لم يسبغ: لم يكرره، وقد يكون وضوءه بالمزدلفة لتمام الفضيلة بتكراره وتمام عدده ثلاثا، والله أعلم.

                                                ويدل على أن وضوءه للصلاة قوله: "ذهب إلى الغائط فلما رجع صببت عليه من الإداوة فتوضأ" وخففه ليكون على طهارة، أو لاستعجاله، فلما أتى مزدلفة أتم فضيلته بالتكرار، أو ابتدأ فرضه لحدث اعتراه، ولا وجه لقول من قال: إنه توضأ وضوءين ليخص كل صلاة من الصلاتين التي تجمع بالمزدلفة بوضوء على عادته من الوضوء لكل صلاة؛ إذ تكرر الوضوء قبل أداء فريضة به ممنوع، ومن السرف المنهي عنه، إنما الفضيلة في تكراره بعد صلاة فرض به.

                                                وقال أبو عمر: وأما قوله: "نزل فبال فلم يسبغ الوضوء" فوجهه عندي -والله أعلم- أنه استنجى بالماء واغتسل به من بوله، وذلك يسمى وضوءا في كلام العرب؛ لأنه من الوضاءة التي هي النظافة.

                                                ومعنى قوله: "لم يسبغ الوضوء" أي: لم يكمل وضوءا للصلاة ولم يتوضأ للصلاة.

                                                والإسباغ الإكمال، فكأنه قال: لم يتوضأ بوضوء الصلاة ولكنه توضأ من البول، هذا وجه الحديث عندي، وهو الصحيح.

                                                وقيل: إنه توضأ وضوءا خفيفا ليس بالبالغ، وضوءا بين الوضوءين، وهذا ظاهره غير الاستنجاء.

                                                وقيل: إنه توضأ على بعض أعضاء الوضوء ولم يكمل الوضوء للصلاة، وعلى ما روي عن ابن عمر: "أنه كان إذا أجنب ليلا وأراد النوم غسل وجهه ويديه إلى المرفقين وربما مسح برأسه ونام" وهذا وجه ضعيف لا معنى له، ولا يجوز أن

                                                [ ص: 23 ] يضاف مثله إلى رسول الله -عليه السلام-، ولعل الذي حكي عن ابن عمر لم يضبط، والوضوء على الجنب عند النوم غير واجب وإنما هو ندب؛ لأنه لا يرفع به حدثه، وفعله سنة وخير، وليس من دفع من عرفة يجد من الفراغ ما يتوضأ به وضوءا يشتغل به عن النهوض إلى مزدلفة، والنهوض إليها من أفضل أعمال البر فكيف يشتغل عنها بما لا معنى له؟! ألا ترى أنه لما جاءت تلك الصلاة في موضعها نزل فأسبغ الوضوء لها، أي توضأ لها كما يجب، فالوضوء عندي الاستنجاء بالماء لا غير؛ لأنه لم يحفظ عنه قط أنه توضأ لصلاة واحدة مرتين، وإن كان توضأ لكل صلاة.

                                                قوله: "فقلت له: الصلاة" بالنصب على الإغراء؛ ويجوز الرفع على تقدير جانب الصلاة.

                                                قوله: "الصلاة أمامك" مرفوع بالابتداء، وقيل: معناه: المصلى الذي تصلي فيه المغرب والعشاء أمامك.

                                                ثم اختلف العلماء فيمن صلى تلك الليلة الصلاة في وقتها هل يعيد إذا أتى المزدلفة أم لا؟ فقيل: يعيد؛ لهذا الحديث، وقيل: لا يعيد؛ لأن الجمع سنة.

                                                وقال أبو عمر: فيه دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يصليها إلا هناك، وذلك توقيف منه -عليه السلام- فإن كان له عذر فعسى الله أن يعذره، وأما من لا عذر له فواجب أن لا تجزئه صلاته قبل ذلك الموضع، على ظاهر هذا الحديث.

                                                وروي عن عطاء وعروة وسالم والقاسم وسعيد بن جبير: "لا ينبغي لأحد أن يصليهما قبل جمع، فإن فعل أجزأه".

                                                وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق. انتهى.

                                                قلت: إذا صلى المغرب في الطريق بعد غروب الشمس قبل أن يأتي مزدلفة فإن كان يمكنه أن يأتي مزدلفة قبل طلوع الفجر لم تجزئه صلاته، وعليه إعادتها ما لم يطلع الفجر. وهو قول أبي حنيفة ومحمد وزفر والحسن .

                                                وقال أبو يوسف: تجزئه وقد أساء.

                                                [ ص: 24 ] وعلى هذا الخلاف إذا صلى العشاء في الطريق بعد دخول وقتها.

                                                قوله: "فقد اختلف عن النبي -عليه السلام- في الصلاتين بمزدلفة هل صلاهما معا؟ " يعني من غير فصل بينهما بنفل وغيره.

                                                "أو عمل بينهما عملا، فروي في ذلك ما قد ذكرنا في حديث ابن عمر" والذي ذكره في حديث ابن عمر أنه لم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما، وقد ذكر عن قريب، فهذا يدل على أنه لم يفصل بينهما بشيء، وفي حديث أسامة المذكور ما يدل على أنه فصل بينهما بعمل، وهذا كما ترى اختلاف، وكذلك اختلف عنه في كيفية صلاته -عليه السلام- إياهما هل كانتا بأذان واحد وإقامة واحدة، أو بأذان وإقامتين، أو بإقامة واحدة بدون أذان، وقد ذكرنا فيه ستة أقوال على ما ذكره ابن حزم .

                                                قوله: "فلما اختلفوا في ذلك على ما ذكرنا" أي فلما اختلفت الرواة في هذا الباب على ما ذكرنا من الأقوال، وأراد بهذا الكلام بيان وجه النظر والقياس، ملخصه: أن الظهر والعصر يجمعان بعرفة بلا فصل بينهما، بأذان واحد وإقامتين، فكذلك ينبغي أن يجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بلا فصل بينهما بأذان وإقامتين قياسا عليه، والجامع كون كل واحدة منهما فرضا في حق محرم بحج في مكان مخصوص؛ لتدارك الوقوف بعرفة والنهوض إلى مزدلفة بعد الدفع عنها.




                                                الخدمات العلمية