الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5536 ص: قال أبو جعفر : -رحمه الله-: فاختلف الناس في تأويل قول رسول الله -عليه السلام-: "البيعان بالخيار ما لم يفترقا"، فقال قوم: هذا على الافتراق بالأقوال، فإذا قال البائع: قد بعت، وقال المشتري: قد قبلت، فقد تفرقا وانقطع خيارهما.

                                                وقالوا: الذي كان لهما من الخيار هو ما كان للبائع أن يبطل قوله للمشتري: قد بعتك هذا العبد بألف درهم قبل قبول المشتري، فإذا قبل المشتري فقد تفرق هو والبائع وانقطع الخيار.

                                                [ ص: 413 ] وقالوا: هذا كما ذكر الله -عز وجل- في الطلاق، فقال: وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته فقالوا: الزوج إذا قال للمرأة قد طلقتك على كذا وكذا، فقالت المرأة: قد قبلت، فقد بانت، ، وتفرقا بهذا القول، وإن لم يتفرقا بأبدانهما، قالوا: فكذلك إذا قال الرجل للرجل: بعتك عبدي هذا بألف درهم، فقال المشتري: قد قبلت، فقد تفرقا بذلك القول وإن لم يتفرقا بأبدانهما. وممن قال بهذا القول وفسر بهذا التفسير: محمد بن الحسن -رحمه الله-.

                                                التالي السابق


                                                ش: أشار بهذا إلى بيان اختلاف العلماء في تأويل التفرق المذكور في الآثار المذكورة، وقد افترقوا ثلاث فرق، وأشار إلى ما قال أهل المقالة الأولى بقوله: "فقال قوم" وأراد بهم: إبراهيم النخعي والثوري في رواية، وربيعة الرأي ومالكا وأبا حنيفة ومحمد بن الحسن؛ فإنهم قالوا: المراد من قوله -عليه السلام-: "ما لم يتفرقا" هو التفرق بالأقوال، فإذا قال البائع: قد بعت، وقال المشتري: قد قبلت، فقد تفرقا، ولا يبقى لهما بعد ذلك خيار، ويتم به البيع، ولا يقدر المشتري على رد البيع إلا بخيار الرؤية، أو خيار العيب، أو خيار الشرط إن شرطه.

                                                قوله: "وقالوا: الذي كان لهما" أي قال هؤلاء القوم: الذي كان للبائع والمشتري هو ما كان للبائع أن يبطل قوله الذي خاطب به المشتري، وهو قوله: قد بعتك هذا العبد بألف مثلا قبل قبول المشتري ذلك، فهذا هو الذي له أن يبطله، فأما إذا قبل المشتري ذلك فقد تفرق هو والبائع، وانقطع الخيار.

                                                قوله: "وقالوا: هذا كما ذكر الله ... " إلى آخره إشارة إلى أنهم أيدوا تأويلهم بما ذكر الله -عز وجل- في الطلاق حيث قال: وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته فإن التفرق ها هنا بالأقوال بلا خلاف، فإن الزوج إذا قال لامرأته: قد طلقتك على كذا وكذا، فقالت المرأة: قد قبلت، فقد بانت وتفرقا بذلك، وإن لم يحصل الافتراق بأبدانهما، فكذلك في البيع كما ذكرنا.

                                                [ ص: 414 ] وقال عياض: لم يأخذ مالك بهذا الحديث -يعني حديث: "ما لم يتفرقا" واعتذر أصحابه عن مخالفته إياه -مع أنه رواه بنفسه- بمعاذير منها: أنهم قالوا: لعله حمل التفرق ها هنا على التفرق بالأقوال فيكون معنى قوله: "المتبايعان" أي المتساومان، فكأنهما بالخيار ما داما يتساومان حتى يفترقا بالإيجاب والقبول، فيجب البيع وإن لم يفترقا بالأبدان.

                                                قالوا: والافتراق بالأقوال تسمية غير مستنكرة، وقد قال تعالى: وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته يعني المطلق، والطلاق لا يشترط فيه فرقة الأبدان، واستدلوا على هذا بما وقع في الترمذي والنسائي وأبي داود من قوله: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله" ولا وجه لحمل الاستقالة على الفسخ؛ لأن ذلك بعيد من مقتضاها في اللسان، ولأنه أيضا إذا قال أحدهما لصاحبه: اختر، فاختار، وجب البيع، ولا فرق بين هذا الالتزام الثاني، والالتزام الأول؛ لأن المجلس لم يفترقا عنه، فإذا وجب بالقول الثاني وجب بالقول الأول.

                                                واعتذر آخرون بأن قالوا: العمل إذا خالف الحديث وجب الرجوع إلى العمل؛ لأن من تقدم لا يتهمون بمخالفة هذا الحديث الظاهر، إلا أنهم علموا الناسخ له فتركوه لأجله.

                                                وقال آخرون: لعل المراد به الاستحباب على قبول استقالة أحد المتبايعين بالفسخ وتكون الإقامة في المجلس سنة بهذا الحديث وبعد الافتراق في المجلس تفضلا واستحبابا.

                                                [ ص: 415 ] قلت: ولقد شنع بعض المتعصبين على أبي حنيفة -رضي الله عنه- في هذا المقام، منهم البيهقي؛ فإنه حكى عن ابن المديني ، عن سفيان، أنه حدث الكوفيين بحديث "البيعان بالخيار" قال: فحدثوا به أبا حنيفة فقال: إن هذا ليس بشيء، أرأيت إن كان في سفينة، قال ابن المديني: إن الله سائله عما قال.

                                                قلت: هذه حكاية منكرة لا تليق بأبي حنيفة مع ما سارت به الركبان وشحنت به كتب أصحابه ومخالفيه من ورعه المشهور، ولقد حكى الخطيب في "تاريخه" أن الخليفة في زمنه أرسل إليه يستفتيه في مسألة، فأرسل إليه بجوابها، فحدثه بعض من كان جالسا في حلقته بحديث يخالف فتياه فرجع عن الفتيا، وأرسل الجواب إلى الخليفة على مقتضى الحديث، ويحتمل أن تكون الآفة من بعض رواة هذه الحكاية، ولم يعين ابن عيينة من حدثه بذلك، بل قال: حدثونا. وعلى تقدير صحة الحكاية؛ لم يرد بقوله: "ليس بشيء" الحديث، وإنما أراد ليس هذا الاحتجاج بشيء، يعني تأويله بالتفرق بالأبدان، فلم يرد الحديث بل تأوله بأن التفرق المذكور فيه هو التفرق بالأقوال كقوله تعالى: وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ولهذا قال: أرأيت لو كانا في سفينة، وتأول المتبايعين بالمتساومين على ما هو معروف من مذهب الحنفية، ومذهبه هو قول طائفة من أهل المدينة وإليه ذهب مالك وربيعة والنخعي على ما ذكرناه، ورواه عبد الرزاق عن الثوري أيضا والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية