الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5585 5586 5587 ص: والدليل على ذلك ما جاء عن رسول الله -عليه السلام-.

                                                حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا الليث ، قال: حدثني ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع، ومن باع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع". .

                                                حدثنا يزيد، قال: ثنا القعنبي ، قال: ثنا ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من اشترى عبدا ولم يشترط ماله فلا شيء له، ومن اشترى نخلا بعد إبارها ولم يشترط الثمر ، فلا شيء له".

                                                حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا حماد بن سلمة ، عن عكرمة بن خالد المخزومي ، عن ابن عمر: أن رجلا اشترى نخلا قد أبرها صاحبها، فخاصمه إلى النبي -عليه السلام- فقضى رسول الله -عليه السلام- أن الثمرة لصاحبها الذي أبرها إلا أن يشترط المشتري".

                                                قال أبو جعفر : -رحمه الله-: فجعل النبي -عليه السلام- في هذه الآثار، ثمر النخل لبائعها إلا أن يشترط مبتاعها، فيكون له . باشتراطه إياها ويكون بذلك مبتاعا لها.

                                                [ ص: 478 ] فقد أباح النبي -عليه السلام- ها هنا بيع ثمرة في رءوس النخل قبل بدو صلاحها، فدل ذلك أن المعنى المنهي عنه في الآثار الأول هو خلاف هذا المعنى.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي الدليل على جواز بيع الثمار في أشجارها بعد ما ظهرت: ما جاء عن النبي -عليه السلام- من رواية عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.

                                                وهو ما أخرجه من ثلاث طرق صحاح:

                                                الأول: عن يزيد بن سنان القزاز ، عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري ، عن الليث بن سعد ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ... إلى آخره.

                                                وأخرجه مسلم : ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا ليث ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن عبد الله بن عمر ، قال: "سمعت رسول الله -عليه السلام- ... إلى آخره نحوه.

                                                وأخرجه بقية الجماعة .

                                                الثاني: عن يزيد أيضا، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ... إلى آخره.

                                                وأخرجه الدارمي في "مسنده" : عن عبد الله بن مسلمة ، عن ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ... إلى آخره نحوه.

                                                الثالث: عن حسين بن نصر بن المعارك ، عن يزيد بن هارون شيخ أحمد ، عن حماد بن سلمة ، عن عكرمة بن خالد المخزومي المكي ، عن عبد الله بن عمر .

                                                [ ص: 479 ] وأخرجه البيهقي في "سننه" : من حديث عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عمر، أن النبي -عليه السلام- قال: "أيما رجل باع مملوكا له مال فماله لربه الأول، إلا أن يشترط المبتاع، وأيما رجل باع نخلا قد أينعت فثمرتها لربها الأول إلا أن يشترط المبتاع".

                                                قوله: "من ابتاع نخلة" أي من اشترى نخلا، وذكر النخل ليس بقيد وإنما ذكرها لأجل أن سبب ورود الحديث كان في النخل، وهو الظاهر بدلالة قوله: "أن رجلا اشترى نخلا قد أبرها صاحبها، فخاصمه إلى النبي -عليه السلام- ... الحديث، وإما لأن الغالب في أشجارهم كان النخل. فافهم.

                                                قوله: "بعد أن تؤبر" من التأبير وهو التلقيح ، يقال: أبرت النخلة -بالتشديد- وأبرتها -بالتخفيف- فهي مؤبرة ومأبورة.

                                                قال القاضي: التأبير في النخل كالتذكير لها، وهو أن يجعل في طلعها أول ما يطلع من طلع فحل النخل أو يعلق عليه لئلا يسقط، وهو اللقاح أيضا، وقال ابن حبيب: الإبار: شق الطلع عن الثمرة.

                                                قوله: "بعد إبارها" بكسر الهمزة وتخفيف الباء الموحدة وهو اسم من أبرت النخلة، ومعناه ما ذكرنا.

                                                ويستفاد منه أحكام:

                                                الأول: ما ذكره الطحاوي وهو أنه يدل على جواز بيع الثمرة على رءوس النخل قبل بدو صلاحها؛ وذلك لأنه -عليه السلام- جعل في هذه الآثار ثمر النخل للبائع عند عدم اشتراط المشتري، فإذا اشترط المشتري ذلك يكون له، ويكون المشتري مشتريا لها أيضا.

                                                [ ص: 480 ] الثاني: استدلت به المالكية على كون الثمرة مع الإطلاق للبائع بعد الإبار إلا أن يشترط، وأنها قبل الإبار للمشتري.

                                                قلت: إنما قالوا كذلك لأن مالكا يرى أن ذكر الإبار ها هنا لتعليق الحكم عليه ليدل على أن ما عداه بخلافه.

                                                وقال أبو حنيفة: تعليق الحكم به إما للتنبيه به على ما لا يؤبر أو لغير ذلك، ولم يقصد به نفي الحكم عما سوى الحكم المذكور.

                                                وقال القاضي عياض: الثمرة قبل الإبار تشبه الجنين قبل الوضع، وبعد الإبار تشبه الجنين بعد الوضع، فكما كانت الأجنة قبل وضعها للمشتري، وبعد وضعها للبائع، وجب أن يجري الثمر هذا المجرى، وأما إذا لم تؤبر، وثبت أنها للمشتري، فهل يجوز للبائع أن يشترطها؟ المشهور في المذهب عندنا: أن ذلك لا يجوز، وبالإجازة قال الشافعي، وتلخيص مآخذ اختلافهم في الحديث: أن أبا حنيفة استعمل الحديث لفظا ومعقولا، واستعمله مالك والشافعي لفظا ودليلا ولكن الشافعي يستعمل دلالته من غير تخصيص ويستعملها مالك مخصصة.

                                                وبيان ذلك: أن أبا حنيفة جعل الثمرة للبائع في الحالين وكأنه رأى أن ذكر الإبار تنبيه على ما قبل الإبار، وهذا المعنى يسمى في الأصول معقول الخطاب، واستعمله مالك والشافعي على أن المسكوت عنه حكم غير حكم المنطوق وهذا يسميه أهل الأصول: دليل الخطاب.

                                                الثالث: قال مالك: إذا لم يشترط المشتري الثمرة في شراء الأصل جاز له شراؤها بعد شراء الأصل، وهذا مشهور قوله، وعنه أنه لا يجوز له إفرادها بالشراء ما لم تطب. وهو قول الشافعي ، والثوري وأهل الظاهر وفقهاء أصحاب الحديث.

                                                وأبو حنيفة يراها إذا لم يشترطها المشتري قبل الإبار، وبعده إذا كانت قد ظهرت للبائع إلا أن عليه قلعها لحينه، وليس عليه تركها للجذاذ والقطاف فمتى اشترط بقاءها فسد عنده البيع.

                                                [ ص: 481 ] وقال محمد بن الحسن: إلا أن يكون بدا صلاحها فيجوز له اشتراط بقائها، وقد خالف ابن أبي ليلى هذا الحديث وقال: سواء أبرت أو لم تؤبر الثمرة للمشتري، اشترط أو لم يشترط.

                                                وقال أبو عمر: وأما ابن أبي ليلى فإنه رد هذا الحديث جهلا به، وأما أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي فلا يفرقون بين المؤبر وغيره، ويجعلون الثمرة للبائع أبدا إذا كانت قد ظهرت ولم يشترطها المبتاع قبل البيع.

                                                الرابع: استدل به أشهب من المالكية على جواز اشتراط بعض الثمر، وقال: يجوز لمن ابتاع نخلا قد أبرت أن يشترط من الثمرة نصفها أو جزءا منها، وكذلك في مال العبد؛ لأن ما جاز اشتراط جميعه جاز اشتراط بعضه، وما لم يدخل الربا في جميعه فأحرى أن لا يدخل في بعضه، وقال أبو عمر: قال ابن القاسم: لا يجوز لمبتاع النخل المؤبر أن يشترط منها جزءا، وإنما له أن يشترط جميعها لا يشترط شيئا منها.

                                                الخامس: استدلت به أصحابنا على أن من باع رقيقا وله مال، أن ماله لا يدخل في البيع ويكون للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، وعلى هذا يقتضي القياس أن لا تدخل ثياب بدنه كما لا يدخل اللجام والسرج والعذار في بيع الدابة؛ لأن العبد وما في يده لمولاه، ولكنهم استحسنوا في ثياب البذلة والمهنة وهي التي يلبسها في اليوم والليلة لتعامل الناس وتعارفهم.

                                                وأما الثياب النفيسة التي لا يلبسها إلا عند العرض للبيع فلا تدخل في البيع؛ لانعدام التعارف في ذلك فبقي على أصل القياس، وكذا لو أعتق عبده على مال فماله لمولاه، وكذا لو أعتق مدبره أو أم ولده ولو كانت عنده فما كان له من المال وقت الكتابة يكون لمولاه، وما اكتسبه بعد الكتابة يكون له.

                                                وقال أبو عمر: لا أعلم خلافا عن مالك وأصحابه أنه يجوز أن يشتري العبد وماله بدراهم إلى أجل، وإن كان ماله دراهم ودنانير وعروضا، وأن ماله كله [ ص: 482 ] تبع، وكان الشافعي يقول ببغداد في كتابه "البغدادي" كقول مالك، هذا حكاه عنه الحسن بن محمد الزعفراني، وهو قول أبي ثور أيضا، وقال الشافعي بمصر في كتابه "المصري" -ذكره عنه الربيع والمزني والبويطي- لا يجوز اشتراط مال العبد إذا كان له مال فضة فاشتراه بفضة أو ذهب فاشتراه بذهب إلا أن يكون ثمنه خلاف الثمن، أو يكون عروضا كما يكون في سائر البيوع، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه أن يباع العبد بألف درهم وله ألف درهم، حتى يكون مع الألف زيادة فيكون الألف بالألف وتكون الزيادة ثمنا للعبد، وقال أيضا: قال الحسن والشعبي: مال العبد تبع له أبدا في البيع والعتق جميعا، لا يحتاج مشتريه فيه إلى اشتراط، وهذا قول مردود بالسنة لا يعرج عليه.

                                                وقال مالك والزهري وأكثر أهل المدينة: إذا أعتق العبد تبعه ماله، وفي البيع لا يتبعه فيه وهو لبائعه، وقال الشافعي بمصر والكوفيون: إذا أعتق العبد أو بيع؛ لم يتبعه ماله، ولا مال له ولا ملك إلا مجازا أو اتساعا لا حقيقة.

                                                وقال القاضي عياض: قال الإمام مالك: العبد يزول عن سيده على أربعة أوجه:

                                                الأول: بعقد معاوضة كالبيع والنكاح، فالمال في ذلك للسيد إلا أن يشترط عليه، خلافا للحسن والزهري في قولهم: إن المال يتبع العبد في البيع، وهذا الحديث يرد عليهما.

                                                الثاني: العتق وما في معناه من العقود التي تفضي [إلى] العتق وتسقط النفقة عن السيد كالكتابة، فالمال للعبد إلا أن يشترط؛ خلافا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: إنه للسيد في العتق.

                                                الثالث: الكتابة فالمال فيها يتبع الرقبة وينتقل بانتقالها.

                                                [ ص: 483 ] الرابع: الهبة والصدقة، وفيها قولان عندنا، والله أعلم.

                                                ومن أحاديث هذا الباب التي فاتت الطحاوي -رحمه الله-: حديث عبادة بن الصامت ، وجابر بن عبد الله ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم-.

                                                أما حديث عبادة بن الصامت فأخرجه ابن ماجه بإسناده إليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن ثمرة النخل لمن أبرها إلا أن يشترط المبتاع، وقضى أن مال المملوك لمن باعه إلا أن يشترط المبتاع".

                                                وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه عبد الله بن أحمد في "مسنده" فقال: وجدت في كتاب أبي، أنا الحكم بن موسى، قال عبد الله: وحدثناه الحكم بن موسى، نا يحيى بن حمزة ، عن أبي وهب ، عن سليمان بن موسى، أن نافعا حدثه، عن عبد الله بن عمر وعطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله -عليه السلام- قال: "من باع عبدا وله مال، فله ماله وعليه دينه إلا أن يشترط المبتاع، ومن أبر نخلا وباعه بعد تأبيره فله ثمرته، إلا أن يشترط المبتاع".

                                                وأما حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فأخرجه البيهقي في "سننه" من حديث سليمان بن بلال ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه، أن عليا -رضي الله عنه- قال: "من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع، قضى به رسول الله -عليه السلام-، ومن باع نخلا ... " الحديث.

                                                وأما حديث ابن مسعود فأخرجه البيهقي أيضا مقتصرا على قضية مال العبد من حديث الأنصاري، ثنا عبد الأعلى بن أبي المساور، ثنا عمران بن عمير ، عن أبيه -وكان مملوكا لابن مسعود- قال: "قال له عبد الله: ما لك [ ص: 484 ] يا عمير؟ لأني أريد أن أعتقك، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أعتق عبدا فماله للذي أعتق".

                                                قلت: عبد الأعلى متروك، قاله الذهبي .




                                                الخدمات العلمية