الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              3336 [ ص: 168 ] باب : قصة الحديبية، وصلح النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع قريش

                                                                                                                              وقال النووي : (باب صلح الحديبية في الحديبية) .

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 136 - 138 ج 12 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [حدثنا إسحق بن إبراهيم الحنظلي، وأحمد بن جناب المصيصي. جميعا عن عيسى بن يونس واللفظ لإسحق أخبرنا عيسى بن يونس أخبرنا زكرياء عن أبي إسحق عن البراء قال لما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيقيم بها ثلاثا ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف وقرابه ولا يخرج بأحد معه من أهلها ولا يمنع أحدا يمكث بها ممن كان معه قال لعلي "اكتب الشرط بيننا. بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله". فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك. ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فأمر عليا أن يمحاها. فقال علي: لا والله لا أمحاها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرني مكانها فأراه مكانها فمحاها وكتب ابن عبد الله فأقام بها ثلاثة أيام فلما أن كان يوم الثالث قالوا لعلي هذا آخر يوم من شرط صاحبك فأمره فليخرج فأخبره بذلك فقال: "نعم" فخرج وقال ابن جناب في روايته مكان تابعناك بايعناك .

                                                                                                                              [ ص: 169 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 169 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن البراء بن عازب) رضي الله عنهما ، (قال : لما أحصر النبي صلى الله عليه) وآله (وسلم ، عند البيت) . قال النووي : هكذا هو في جميع النسخ في بلادنا . وكذا نقله عياض عن رواية جميع الرواة ، سوى " ابن الحذاء " في روايته : " عن البيت "، وهو الوجه . وحصر وأحصر ، سبق بيانهما في كتاب الحج .

                                                                                                                              (صالحه أهل مكة ، على أن يدخلها فيقيم بها ثلاثا) سبب هذا التقدير : أن المهاجر من مكة ، لا يجوز له أن يقيم بها أكثر من ثلاثة أيام . وهذا أصل في أن الثلاثة ليس لها حكم الإقامة . وأما ما فوقها ، فله حكم الإقامة . وقد رتب الفقهاء على هذا : قصر الصلاة فيمن نوى إقامة في بلد في طريقه . وقاسوا على هذا الأصل مسائل كثيرة ، ليست من غرضنا في هذا الكتاب ، لعدم الدليل على أكثرها .

                                                                                                                              (ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح) . قال أبو إسحاق السبيعي : هو القراب وما فيه . " والجلبان " بضم الجيم . قال عياض في " المشارق " : ضبطناه " جلبان " ، بضم الجيم واللام وتشديد الباء . قال : وكذا رواه الأكثرون . وصوبه ابن قتيبة وغيره . ورواه بعضهم بإسكان اللام .

                                                                                                                              [ ص: 170 ] وكذا ذكره الهروي وصوبه ، هو وثابت . ولم يذكر ثابت سواه .

                                                                                                                              وهو ألطف من الجراب . يكون من الأدم . يوضع فيه السيف مغمدا .

                                                                                                                              ويطرح فيه الراكب : سوطه وأداته ، ويعلقه في الرحل .

                                                                                                                              قال أهل العلم : وإنما شرطوا هذا لوجهين ;

                                                                                                                              أحدهما : أن لا يظهر منه دخول الغالبين القاهرين .

                                                                                                                              والثاني : أنه إن عرض فتنة أو نحوها ، يكون في الاستعداد بالسلاح صعوبة .

                                                                                                                              (السيف وقرابه . ولا يخرج بأحد معه من أهلها . ولا يمنع أحدا يمكث بها ، ممن كان معه . قال لعلي : اكتب الشرط ما بيننا ; بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ، صلى الله عليه) وآله (وسلم)) .

                                                                                                                              وفي رواية : "هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ".

                                                                                                                              قال أهل العلم : معنى " قاضى " هنا : فاصل وأمضى أمره عليه .

                                                                                                                              [ ص: 171 ] ومنه : قضى القاضي . أي : فصل الحكم وأمضاه . ولهذا سميت تلك السنة : "عام المقاضاة . وعمرة القضية. وعمرة القضاء ") . كله من هذا . وغلط من قال : إنها سميت : " عمرة القضاء " ، لقضاء العمرة التي صد عنها . لأنه لا يجب قضاء المصدود عنها ، " إذا تحلل" بالإحصار ، كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، في ذلك العام .

                                                                                                                              وفي هذا الحديث : دليل على أنه يجوز أن يكتب في أول الوثائق ، وكتب الأملاك ، والصداق، والعتق ، والوقف ، والوصية ونحوها : هذا ما اشترى فلان . أو هذا ما أصدق . أو وقف . أو أعتق . ونحوه . قال النووي : هذا هو الصواب ، الذي عليه الجمهور من العلماء . وعليه عمل المسلمين في جميع الأزمان وجميع البلدان ، من غير إنكار . قال عياض : وفيه دليل على أنه يكتفى في ذلك بالاسم المشهور ، من غير زيادة . خلافا لمن قال : لا بد من أربعة : المذكور ، وأبيه ، وجده ، ونسبه .

                                                                                                                              وفيه : أن للإمام أن يعقد الصلح على ما رآه مصلحة للمسلمين ، وإن كانت لا تظهر لبعض الناس ، في بادئ الرأي .

                                                                                                                              وفيه : احتمال المفسدة اليسيرة لدفع أعظم منها ، أو لتحصيل مصلحة أعظم منها ، إذا لم يكن ذلك إلا بذلك .

                                                                                                                              (فقال له المشركون . لو نعلم : أنك رسول الله تابعناك) . وفي رواية :

                                                                                                                              [ ص: 172 ] " بايعناك "، (ولكن اكتب : محمد بن عبد الله . فأمر عليا أن يمحاها . فقال علي : لا. والله ! لا أمحاها) . وهذا الذي فعله علي " رضي الله عنه " ، من باب الأدب المستحب. لأنه لم يفهم من النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم : تحتيم محو علي بنفسه . ولهذا لم ينكر . ولو حتم محوه بنفسه ، لم يجز لعلي تركه . ولما أقره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على المخالفة . (فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " أرني مكانها " ، . فأراه مكانها ، فمحاها . وكتب : " ابن عبد الله ،) .

                                                                                                                              قال عياض : احتج بهذا اللفظ بعض الناس ، على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كتب ذلك بيده ، على ظاهر هذا اللفظ . وقد ذكر البخاري وغيره نحوه . وقال فيه : " أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب ، فكتب ، وزاد : " ولا يحسن أن يكتب فكتب . قال أصحاب هذا المذهب : إن الله تعالى أجرى ذلك على يده ، إما بأن كتب ذلك : القلم بيده ، وهو غير عالم بما يكتب . أو أن الله علمه ذلك حينئذ حتى كتب . وجعل هذا زيادة في معجزته ، فإنه كان أميا . فكما علمه ما لم يعلم ، وجعله يقرأ ما لم يقرأ ، ويتلو ما لم يكن يتلو:

                                                                                                                              كذلك علمه أن يكتب ما لم يكن يكتب ، وخط ما لم يكن يخط ، بعد النبوة . أو أجرى ذلك على يده . قالوا : وهذا لا يقدح في وصفه بالأمية .

                                                                                                                              [ ص: 173 ] واحتجوا بآثار جاءت في هذا ، عن الشعبي وبعض السلف . وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لم يمت حتى كتب . قال عياض : وإلى جواز هذا ، ذهب الباجي . وحكاه عن السمناني وأبي ذر وغيره .

                                                                                                                              وذهب الأكثرون : إلى منع هذا كله . قالوا : وهذا الذي زعمه الذاهبون إلى القول الأول ، يبطله وصف الله تعالى إياه : بالنبي الأمي . وقوله تعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك .

                                                                                                                              وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : " إنا أمة أمية ، لا نكتب ، ولا نحسب " . قالوا : وقوله في هذا الحديث : " كتب " معناه : أمر بالكتابة .

                                                                                                                              كما يقال : " رجم ماعزا ". وقطع السارق . وجلد الشارب . أي : أمر بذلك . واحتجوا بالرواية الأخرى : " فقال لعلي : اكتب محمد بن عبد الله ".

                                                                                                                              قال عياض : وأجاب الأولون عن قوله : " لم يتل ، ولم يخط " أي : من قبل تعليمه . كما قال الله تعالى " من قبله " . فكما جاز أن يتلو ، جاز أن يكتب . ولا يقدح هذا في كونه أميا . إذ ليست المعجزة مجرد كونه أميا . فإن المعجزة حاصلة بكونه كان أو كذلك . ثم جاء بالقرآن ; وبعلوم لا يعلمها الأميون . قال: وهذا الذي قالوه ، ظاهر . قال: وقوله : " ولا يحسن أن يكتب فكتب " ، كالنص أنه كتب بنفسه .

                                                                                                                              قال: والعدول إلى غيره مجاز . ولا ضرورة إليه . قال : وقد طال [ ص: 174 ] كلام كل فرقة في هذه المسألة . وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا . والله أعلم .

                                                                                                                              (فأقام بها ثلاثة أيام . فلما أن كان يوم الثالث) . هكذا هو في النسخ كلها : بإضافة "يوم" إلى "الثالث " . وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة . ومذهب الكوفيين : جوازه على ظاهره . ومذهب البصريين : تقدير محذوف منه . أي : يوم الزمان الثالث .

                                                                                                                              (قالوا لعلي رضي الله عنه : هذا آخر يوم من شرط صاحبك . فأمره ، فليخرج. فأخبره بذلك ، فقال : " نعم " . فخرج) .

                                                                                                                              قال النووي : هذا الحديث : فيه حذف واختصار . والمقصود : أن هذا الكلام لم يقع في عام صلح الحديبية . وإنما وقع في السنة الثانية .

                                                                                                                              وهي عمرة القضاء . وكانوا شارطوا النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم " في عام الحديبية ": أن يجيء بالعام المقبل فيعتمر ، ولا يقيم أكثر من ثلاثة أيام . فجاء في العام المقبل ، فأقام إلى أواخر اليوم الثالث . فقالوا لعلي هذا الكلام . فاختصر هذا الحديث . ولم يذكر أن الإقامة وهذا الكلام ، كان في العام المقبل . واستغني عن ذكره ، بكونه معلوما . وقد جاء مبينا في روايات أخر . مع أنه قد علم ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لم يدخل مكة عام الحديبية . والله أعلم .

                                                                                                                              [ ص: 175 ] فإن قيل : كيف أحوجوهم إلى أن يطلبوا منهم الخروج ، ويقوموا بالشرط ؟ فالجواب : أن هذا الطلب ، كان قبل انقضاء الأيام الثلاثة بيسير ، وكان عزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأصحابه : على الارتحال عند انقضاء الثلاثة . فاحتاط الكفار لأنفسهم ، وطلبوا الارتحال قبل انقضاء الثلاثة بيسير . فخرجوا عند انقضائها ، وفاء بالشرط . لا أنهم كانوا مقيمين لو لم يطلب ارتحالهم .




                                                                                                                              الخدمات العلمية