الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              3326 باب منه

                                                                                                                              وهو في النووي في الباب المتقدم .

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 120 ج 12 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن أبي إسحق، قال: جاء رجل إلى البراء، فقال أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة فقال أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى ولكنه انطلق أخفاء من الناس وحسر، إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل، كأنها رجل من جراد، [ ص: 221 ] فانكشفوا فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته فنزل ودعا واستنصر وهو يقول:

                                                                                                                              أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

                                                                                                                              اللهم نزل نصرك.

                                                                                                                              قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا للذي يحاذي به يعني النبي صلى الله عليه وسلم
                                                                                                                              .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن أبي إسحاق ; قال : جاء رجل إلى البراء ، فقال : أكنتم وليتم يوم حنين ؟ يا أبا عمارة ! فقال : أشهد على نبي الله صلى الله عليه) وآله وسلم أنه ما ولى ولكنه انطلق أخفاء) جمع " خفيف" . وهم المسارعون المستعجلون (من الناس ، وحسر) بضم الحاء وتشديد السين المفتوحة . والحاسر : من لا درع عليه (إلى هذا الحي من هوازن) .

                                                                                                                              وهم قوم رماة . فرموهم برشق) بكسر الراء : اسم السهام ، التي ترميها الجماعة دفعة واحدة .

                                                                                                                              وأما " الرشق " بفتح الراء . فهو مصدر . وضبطه عياض هنا بالكسر لا غير .

                                                                                                                              [ ص: 222 ] (من نبل كأنها رجل من جراد) أي : قطعة منه . وكأنها شبهت برجل الحيوان ، لكونها قطعة منه .

                                                                                                                              (فانكشفوا) أي : انهزموا ، وفارقوا مواضعهم وكشفوها .

                                                                                                                              وهذا الجواب الذي أجاب به البراء ، من بديع الأدب . لأن تقدير الكلام : " وليتم كلكم ؟". فيقتضي : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وافقهم في ذلك . فقال البراء : أشهد عليه أنه ما ولى ولكن جماعة من الصحابة ، جرى لهم كذا وكذا .

                                                                                                                              فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأبو سفيان ابن الحارث رضي الله عنه ، (يقود به بغلته . فنزل ، ودعا واستنصر) .

                                                                                                                              فيه : استحباب الدعاء عند قيام الحرب (وهو يقول :


                                                                                                                              أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)

                                                                                                                              .

                                                                                                                              قال المازري : أنكر بعض الناس كون الرجز شعرا ، لوقوعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم . مع قوله تعالى : وما علمناه الشعر وما ينبغي له . وهذا مذهب الأخفش . واحتج به على فساد مذهب الخليل في أنه شعر . وأجابوا عن هذا : بأن الشعر هو ما قصد إليه ، واعتمد الإنسان أن يوقعه موزونا مقفى يقصده إلى القافية . ويقع في ألفاظ العامة : كثير من الألفاظ الموزونة . ولا يقول أحد : إنها شعر، [ ص: 223 ] ولا صاحبها شاعر . وهكذا الجواب عما في القرآن من الموزون ، كقوله تعالى :

                                                                                                                              لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون .

                                                                                                                              وقوله تعالى : نصر من الله وفتح قريب ولا شك : أن هذا لا يسميه أحد من العرب شعرا لأنه لم يقصد تقفيته وجعله شعرا . قال: وقد غفل بعض الناس عن هذا القول ، فأوقعه ذلك في أن قال : الرواية "أنا النبي لا كذب "، بفتح الباء . حرصا منه على أن يفسد الروي ، فيستغني عن الاعتذار . وإنما الرواية بإسكان الباء . انتهى .

                                                                                                                              قال النووي : قال الإمام أبو القاسم (علي بن أبي جعفر بن علي السعدي الصقلي) ، المعروف " بابن القطاع " في كتابه الشافي ، في علم القوافي) : قد رأى قوم ، منهم " الأخفش " (وهو شيخ هذه الصناعة بعد الخليل) : أن مشطور الرجز ومنهوكه ليس بشعر . كقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " الله مولانا ولا مولى لكم ، وقوله :


                                                                                                                              هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت

                                                                                                                              .

                                                                                                                              ، وقوله :


                                                                                                                              أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

                                                                                                                              .

                                                                                                                              [ ص: 224 ] وأشباه هذا . قال: وهذا الذي زعمه الأخفش وغيره : غلط بين . وذلك لأن الشاعر إنما سمي شاعرا لوجوه ;

                                                                                                                              منها : أنه شعر القول وقصده ، وأراده واهتدى إليه ، وأتى به كلاما موزونا على طريقة العرب ، مقفى . فإن خلا من هذه الأوصاف أو بعضها ، لم يكن شعرا ، ولا يكون قائله شاعرا ، بدليل أنه لو قال كلاما موزونا على طريقة العرب ، وقصد الشعر أو أراده ، ولم يقفه : لم يسم ذلك الكلام شعرا . ولا قائله شاعرا ، بإجماع العلماء والشعراء . وكذا لو قفاه وقصد به الشعر ، ولكن لم يأت به موزونا ، لم يكن شعرا . وكذا ، لو أتى به موزونا مقفى ، لكن لم يقصد به الشعر : لا يكون شعرا . ويدل عليه : أن كثيرا من الناس يأتون بكلام موزون مقفى ، غير أنهم ما قصدوه ولا أرادوه ، ولا يسمى شعرا ، وإذا تفقد ذلك وجد كثيرا في كلام الناس . كما قال بعض السؤال: "اختموا صلاتكم بالدعاء والصدقة ". وأمثال هذا كثيرة . فدل على أن الكلام الموزون لا يكون شعرا ، إلا بالشروط المذكورة . وهي القصد وغيره مما سبق . والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لم يقصد بكلامه ذلك ، الشعر ولا أراده . فلا يعد شعرا وإن كان موزونا . والله أعلم .

                                                                                                                              فإن قيل : كيف قال صلى الله عليه وآله وسلم : " أنا ابن عبد المطلب " [ ص: 225 ] فانتسب إلى جده دون أبيه ، وافتخر بذلك ، مع أن الافتخار في حق أكثر الناس من عمل الجاهلية ؟.

                                                                                                                              فالجواب : أنه صلى الله عليه وآله وسلم ، كانت شهرته بجده أكثر . لأن أباه " عبد الله " توفي شابا في حياة أبيه ، قبل اشتهاره . وكان عبد المطلب مشهورا شهرة ظاهرة شائعة . وكان سيد أهل مكة . وكان كثير من الناس يدعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " ابن عبد المطلب ". ينسبونه إلى جده لشهرته . ومنه : حديث همام بن ثعلبة ، في قوله : " أيكم ابن عبد المطلب ؟" وقد كان مشتهرا عندهم : أن عبد المطلب بشر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم . وأنه سيظهر وسيكون شأنه عظيما . وكان قد أخبره بذلك : " سيف بن ذي يزن ".

                                                                                                                              وقيل : إن عبد المطلب رأى رؤية تدل على ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وكان ذلك مشهورا عندهم ، فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم تذكيرهم بذلك ، وتنبيههم بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لا بد من ظهوره على الأعداء ، وأن العاقبة له ، لتقوى نفوسهم . وأعلمهم أيضا بأنه ثابت ملازم للحرب ، لم يول مع من ولى . وعرفهم موضعه ، ليرجع إليه الراجعون .

                                                                                                                              قال النووي : ومعنى قوله : " أنا النبي لا كذب ": أي أنا النبي حقا ; فلا أفر ولا أزول .

                                                                                                                              قال : وفي هذا دليل على جواز قول الإنسان في الحرب : " أنا فلان ، وأنا ابن فلان ". ومثله قول سلمة : " أنا ابن الأكوع". وقول علي :

                                                                                                                              [ ص: 226 ] " أنا الذي سمتني أمي حيدره ". وأشباه ذلك . وقد صرح بجوازه علماء السلف . وفيه حديث صحيح . قالوا : وإنما يكره قول ذلك ، على وجه الافتخار ، كفعل الجاهلية . والله أعلم .

                                                                                                                              (" اللهم أنزل نصرك "، قال البراء : كنا والله ! إذا احمر البأس نتقي به . وإن الشجاع منا ، الذي يحاذي به . يعني : النبي صلى الله عليه) وآله (وسلم) .

                                                                                                                              " احمرار البأس " كناية عن شدة الحرب . واستعير ذلك لحمرة الدماء الحاصلة فيها في العادة . أو لاستعار الحرب واشتعالها ، كاحمرار الجمر . كما في الرواية السابقة : "حمي الوطيس ".

                                                                                                                              وفيه : بيان شجاعته صلى الله عليه وآله وسلم ، وعظم وثوقه بالله تعالى .




                                                                                                                              الخدمات العلمية