( فائدة ) . من الأسئلة الحسنة في
قوله تعالى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=20كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ) ( البقرة : 20 ) أنه يقال : لم أتي قبل " أضاء " بـ " كلما " وقبل " أظلم " بـ " إذا " ؟ وما وجه المناسبة في ذلك ؟ وفيه وجوه : الأول : أن تكرار الإضاءة يستلزم تكرار الإظلام ، فكان تنويع الكلام أعذب .
( الثاني ) : أن مراتب الإضاءة مختلفة متنوعة ، فذكر " كلما " تنبيها على ظهور التعدد ، وقوته لوجوده بالصورة والنوعية ، والإظلام نوع واحد ، فلم يؤت بصيغة التكرار لضعف التعدد فيه بعد ظهوره بالنوعية ، وإن حصل بالصورة .
( الثالث ) : قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ، وفيه تكلف - أنهم لما اشتد حرصهم على الضوء المستفاد من النور كانوا كلما حدث لهم نور تجدد لهم باعث الضوء فيه ، لا يمنعهم من ذلك تقدم فقده ، واختفاؤه منهم ، وأما التوقف بالظلام فهو نوع واحد . وهذا قريب من
[ ص: 183 ] الجواب الثاني لكنه بمادة أخرى ، ويفترقان بأن جواب
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري يرجع التكرار فيه إلى جواب " كلما " لا إلى مشروطها الذي يليها ويباشرها ، فطلب تكراره وهو الأولى في مدلول التكرار ، والجواب المتقدم يرجع إلى تكرار مشروطها الذي يتبعه الجواب من حيث هو ملزومه ، وتكرره فرع تكرر الأول .
( الرابع ) : أن إضاءة البرق منسوبة إليه وإظلامه ليس منسوبا إليه ، لأن إضاءته هي لمعانه ، والظلام أمر يحدث عن اختفائه ، فتظلم الأماكن كظلام الأجرام الكثائف ، فأتى بأداة التكرار عند الفعل المتكرر من البرق ، وبالأداة التي لا تقتضي التكرار عند الفعل الذي ليس متكررا منه ولا صادرا عنه .
( الخامس ) : ذكره
ابن المنير - أن المراد بإضاءة البرق الحياة ، وبالظلام الموت ، فالمنافق تمر حالة في حياته بصورة الإيمان ، لأنها دار مبنية على الظاهر ، فإذا صار إلى الموت رفعت له أعماله ، وتحقق مقامه ، فتستقيم " كلما " في الحياة ، و " إذا " في الممات ، وهكذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1018723اللهم أحيني ما دامت الحياة خيرا لي ، وأمتني إذا كانت الوفاة خيرا لي فاستعمل مع الحياة لفظ التكرار والدوام ، واستعمل مع لفظ الوفاة لفظ الاختصار والتقييد .
وقيل : إن ذلك لأحد معنيين : إما لأن الحياة مأثورة لازدياد العمل الصالح الذي الهمم
[ ص: 184 ] العالية معقودة به فعرض بالاستكثار منه والدوام عليه ، ونبه على أن الموت لا يتمنى ، ولكن إذا نزل في وقته رضي به . وإما لأن الحياة يتكرر زمانها ، وأما الموت مرة واحدة .
وجواب آخر : أن الكلام في الأنوار هو الأصل المستمر ، وأما خفقان البرق في أثناء ذلك فعوارض تتصل بالحدوث والتكرار ، فناسب الإتيان فيها بـ " كلما " وفي تلك بـ " إذا " ، والله أعلم .
( فَائِدَةٌ ) . مِنَ الْأَسْئِلَةِ الْحَسَنَةِ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=20كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ) ( الْبَقَرَةِ : 20 ) أَنَّهُ يُقَالُ : لِمَ أُتِيَ قَبْلَ " أَضَاءَ " بِـ " كُلَّمَا " وَقَبْلَ " أَظْلَمَ " بِـ " إِذَا " ؟ وَمَا وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي ذَلِكَ ؟ وَفِيهِ وُجُوهٌ : الْأَوَّلُ : أَنَّ تَكْرَارَ الْإِضَاءَةِ يَسْتَلْزِمُ تَكْرَارَ الْإِظْلَامِ ، فَكَانَ تَنْوِيعُ الْكَلَامِ أَعْذَبَ .
( الثَّانِي ) : أَنَّ مَرَاتِبَ الْإِضَاءَةِ مُخْتَلِفَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ ، فَذَكَرَ " كُلَّمَا " تَنْبِيهًا عَلَى ظُهُورِ التَّعَدُّدِ ، وَقُوَّتِهِ لِوُجُودِهِ بِالصُّورَةِ وَالنَّوْعِيَّةِ ، وَالْإِظْلَامُ نَوْعٌ وَاحِدٌ ، فَلَمْ يُؤْتَ بِصِيغَةِ التَّكْرَارِ لِضَعْفِ التَّعَدُّدِ فِيهِ بَعْدَ ظُهُورِهِ بِالنَّوْعِيَّةِ ، وَإِنْ حَصَلَ بِالصُّورَةِ .
( الثَّالِثُ ) : قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ ، وَفِيهِ تَكَلُّفٌ - أَنَّهُمْ لَمَّا اشْتَدَّ حِرْصُهُمْ عَلَى الضَّوْءِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ النُّورِ كَانُوا كُلَّمَا حَدَثَ لَهُمْ نُورٌ تَجَدَّدَ لَهُمْ بَاعِثُ الضَّوْءِ فِيهِ ، لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ تَقَدُّمُ فَقْدِهِ ، وَاخْتِفَاؤُهُ مِنْهُمْ ، وَأَمَّا التَّوَقُّفُ بِالظَّلَامِ فَهُوَ نَوْعٌ وَاحِدٌ . وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ
[ ص: 183 ] الْجَوَابِ الثَّانِي لَكِنَّهُ بِمَادَّةٍ أُخْرَى ، وَيَفْتَرِقَانِ بِأَنَّ جَوَابَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيِّ يَرْجِعُ التَّكْرَارُ فِيهِ إِلَى جَوَابِ " كُلَّمَا " لَا إِلَى مَشْرُوطِهَا الَّذِي يَلِيهَا وَيُبَاشِرُهَا ، فَطَلَبَ تَكْرَارَهُ وَهُوَ الْأَوْلَى فِي مَدْلُولِ التَّكْرَارِ ، وَالْجَوَابُ الْمُتَقَدِّمُ يَرْجِعُ إِلَى تَكْرَارِ مَشْرُوطِهَا الَّذِي يَتْبَعُهُ الْجَوَابُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَلْزُومُهُ ، وَتَكَرُّرُهُ فَرْعُ تَكَرُّرِ الْأَوَّلِ .
( الرَّابِعُ ) : أَنَّ إِضَاءَةَ الْبَرْقِ مَنْسُوبَةٌ إِلَيْهِ وَإِظْلَامَهُ لَيْسَ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ ، لِأَنَّ إِضَاءَتَهُ هِيَ لَمَعَانُهُ ، وَالظَّلَامُ أَمْرٌ يَحْدُثُ عَنِ اخْتِفَائِهِ ، فَتُظْلِمُ الْأَمَاكِنُ كَظَلَامِ الْأَجْرَامِ الْكَثَائِفِ ، فَأَتَى بِأَدَاةِ التَّكْرَارِ عِنْدَ الْفِعْلِ الْمُتَكَرِّرِ مِنَ الْبَرْقِ ، وَبِالْأَدَاةِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ عِنْدَ الْفِعْلِ الَّذِي لَيْسَ مُتَكَرِّرًا مِنْهُ وَلَا صَادِرًا عَنْهُ .
( الْخَامِسُ ) : ذَكَرَهُ
ابْنُ الْمُنِيرِ - أَنَّ الْمُرَادَ بِإِضَاءَةِ الْبَرْقِ الْحَيَاةُ ، وَبِالظَّلَامِ الْمَوْتُ ، فَالْمُنَافِقُ تَمُرُّ حَالَةٌ فِي حَيَاتِهِ بِصُورَةِ الْإِيمَانِ ، لِأَنَّهَا دَارٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّاهِرِ ، فَإِذَا صَارَ إِلَى الْمَوْتِ رُفِعَتْ لَهُ أَعْمَالُهُ ، وَتَحَقَّقَ مَقَامُهُ ، فَتَسْتَقِيمُ " كُلَّمَا " فِي الْحَيَاةِ ، وَ " إِذَا " فِي الْمَمَاتِ ، وَهَكَذَا كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1018723اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا دَامَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي ، وَأَمِتْنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي فَاسْتَعْمَلَ مَعَ الْحَيَاةِ لَفْظَ التَّكْرَارِ وَالدَّوَامِ ، وَاسْتَعْمَلَ مَعَ لَفْظِ الْوَفَاةِ لَفْظَ الِاخْتِصَارِ وَالتَّقْيِيدِ .
وَقِيلَ : إِنَّ ذَلِكَ لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : إِمَّا لِأَنَّ الْحَيَاةَ مَأْثُورَةٌ لِازْدِيَادِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي الْهِمَمُ
[ ص: 184 ] الْعَالِيَةُ مَعْقُودَةٌ بِهِ فَعَرَّضَ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ وَالدَّوَامِ عَلَيْهِ ، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ لَا يُتَمَنَّى ، وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ فِي وَقْتِهِ رُضِيَ بِهِ . وَإِمَّا لِأَنَّ الْحَيَاةَ يَتَكَرَّرُ زَمَانُهَا ، وَأَمَّا الْمَوْتُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ .
وَجَوَابٌ آخَرُ : أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَنْوَارِ هُوَ الْأَصْلُ الْمُسْتَمِرُّ ، وَأَمَّا خَفَقَانُ الْبَرْقِ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ فَعَوَارِضُ تَتَّصِلُ بِالْحُدُوثِ وَالتَّكْرَارِ ، فَنَاسَبَ الْإِتْيَانُ فِيهَا بِـ " كُلَّمَا " وَفِي تِلْكَ بِـ " إِذَا " ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .