الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان ذل الاختيال ، وإظهار آثار الكبر في المشي وجر الثياب .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا ينظر الله إلى رجل يجر إزاره بطرا» .

وقال صلى الله عليه وسلم: « بينما رجل يتبختر في برديه إذ أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة .

التالي السابق


(بيان ذم الاختيال، وإظهار آثار الكبر في المشي وجر الثياب) *

(قال صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى رجل يجر إزاره بطرا") هكذا في سائر النسخ، وفي نسخة العراقي: "لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا" وقال: متفق عليه من حديث أبي هريرة.

وقال في التقريب: وعن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا".

قال ولده الولي العراقي في شرحه على كتاب والده: أخرجه البخاري من هذا الوجه من طريق مالك.

وأخرجه مسلم والنسائي من طريق شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، وابن ماجه من رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، بلفظ: "من الخيلاء" اهـ .

وقال السيوطي في المعجم الكبير: حديث: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه بطرا" رواه البخاري وأحمد والبيهقي من حديث أبي هريرة، ومعنى كون الله لا ينظر إليه نظر رحمة، ونظره سبحانه وتعالى لعباده رحمته لهم، ولطفه لهم، فعبر عن المعنى الكائن عن النظر بالنظر؛ لأن من نظر إلى متواضع رحمه، ومن نظر إلى متكبر مقته، فالنظر إليه اقتضى الرحمة أو المقت .

وأما التقييد بيوم القيامة؛ لأنه محل الرحمة العظيمة المستمرة التي لا تنقطع عن المرحوم .

(وقال صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يتبختر في برديه) مثنى برد، بضم فسكون، نوع من الثياب معروف، قال في المحكم: ثوب فيه خطوط، وخص بعضهم به الموشى، والجمع: أبراد وأبرد وبرود، وفي رواية: "في بردين" (وقد أعجبته نفسه) وفي رواية: "قد أعجبته جمته وبرداه" كما سيأتي (خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها) أي: يتحرك وينزل مضطربا، قاله الخليل (إلى يوم القيامة) وفي رواية: حتى يوم القيامة.

فيه فوائد:

*الأولى: أخرجه مسلم من طريق همام، عن أبي هريرة، ومن طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة.

وأخرجه من طريق أبي رافع، عن أبي هريرة، بلفظ: "إن رجلا فيمن كان قبلكم يتبختر في حلة" الحديث .

واتفق عليه الشيخان من طريق شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، بلفظ: "بينما رجل يمشي في حلة، تعجبه نفسه، مرجل جمته إذ خسف به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة" لفظ البخاري، ولم يسق مسلم لفظه .

وأخرجه [ ص: 346 ] أيضا من طريق الربيع بن مسلم، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، بلفظ: "بينما رجل يمشي قد أعجبته نفسه، جمته وبرداه" وأخرجه البخاري من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة.

* الثانية: قد يحتمل أن هذا الرجل من هذه الأمة، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيقع هذا، وقيل: بل هو إخبار عمن قبل هذه الأمة، قال عياض: وهذا أظهر، وقال النووي: وهذا هو الصحيح، وهو معنى إدخال البخاري له في ذكر بني إسرائيل .

قال الولي العراقي: قد صرح به في رواية مسلم المتقدمة؛ حيث قال فيها: "إن رجلا ممن كان".

وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده، عن كريب قال: "كنت أقود ابن عباس في زقاق أبي لهيب، فقال: يا كريب، بلغنا مكان كذا وكذا؟ قلت: أنت عنده الآن، فقال: حدثني العباس بن عبد المطلب قال: بينما أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع إذ أقبل رجل يتبختر بين بردين، وينظر بين عطفيه، قد أعجبته نفسه، إذ خسف الله به الأرض في هذا الموطن، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" ولم يسق مسلم لفظه .

وأخرجه أيضا من طريق الربيع، عن محمد بن زياد.

قلت: وروى الطبراني في الكبير من حديث أبي جري الهجيمي بلفظ: "إن رجلا ممن كان قبلكم لبس بردة فتبختر فيها، فنظر الله إليه من فوق عرشه، فمقته، فأمر الأرض فأخذته، فهو يتجلجل، فأحذرك مقت الله عز وجل".

وروى ابن عساكر "أن رجلا في الجاهلية جعل يتبختر وعليه حلة قد لبسها، فأمر الله -عز وجل- الأرض فأخذته، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" هكذا أورده السيوطي في المعجم الكبير، ولم يذكر صحابيه، وبيض له، فليحرر، ولعله أبو هريرة.

*الثالثة: قال أبو العباس القرطبي: البردان الإزار والرداء، وهذا على طريقة تثنية العمرين والقمرين. انتهى .

قال الولي العراقي: وفي تعيينه أن البردين إزار ورداء نظر، وقوله: إنه كالعمرين والقمرين مردود؛ لأن ذلك فيه تغليب، وهذا لا تغليب فيه، بل كل من مفرديه برد، ولو قيل للرداء والإزار: إزاران أو رداءان لكان من باب التغليب .

*الرابعة: قال أبو العباس القرطبي: إعجاب الرجل بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال والاستحسان، مع نسيان منة الله، فإن رفعها على الغير واحتقره فهو الكبر المذموم.

*الخامسة: في الرواية التي فيها "حتى يوم القيامة": "يوم القيامة" مجرور بحتى، وهي دالة على انتهاء الغاية، بشرط كون المجرور بها آخر جزء، أي: في آخر جزء، ذكره الزمخشري، وطائفة من المغاربة، وابن مالك في شرح الكافية، ولم يشترط ذلك في التسهيل .

*السادسة: قال أبو العباس القرطبي: يفيد هذا الحديث ترك الأمن من تعجيل المؤاخذة على الذنوب، وأن عجب المرء بنفسه وثوبه وهيئته حرام وكبيرة. والله أعلم .




الخدمات العلمية