الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
24 - حرف الباء

أصله للإلصاق ، ومعناه اختلاط الشيء بالشيء ، ويكون حقيقة ، وهو الأكثر ، نحو : به داء ، ومجازا كمررت به ، إذ معناه جعلت مروري ملصقا بمكان قريب منه لا به ، فهو وارد على الاتساع . وقد جعلوا منه قوله تعالى : وامسحوا برءوسكم . ( المائدة : 6 )

وقد تأتي زائدة إما مع الخبر ، نحو : وجزاء سيئة سيئة مثلها ( الشورى : 40 ) . وإما مع الفاعل نحو : وكفى بالله شهيدا ( النساء : 79 ) فالله فاعل و " شهيدا " نصب على الحال أو التمييز ، والباء زائدة ، ودخلت لتأكيد الاتصال ، أي لتأكيد شدة ارتباط الفعل بالفاعل ، لأن الفعل يطلب فاعله طلبا لا بد منه ، والباء توصل الأول إلى الثاني ، فكأن الفعل يصل إلى الفاعل ، وزادته الباء اتصالا .

قال ابن الشجري : فعلوا ذلك إيذانا بأن الكفاية من الله ، ليست كالكفاية من غيره في عظم المنزلة ، فضوعف لفظها ليضاعف معناها . وقيل : دخلت الباء لتدل على المعنى ، لأن المعنى اكتفوا بالله . وقيل : الفاعل مقدر ، والتقدير كفى الاكتفاء بالله ، فحذف المصدر وبقي معموله دالا عليه . وفيه نظر ، لأن الباء إذا سقطت ارتفع اسم الله على الفاعلية ، كقوله :


كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا



[ ص: 223 ] وإما مع المفعول كقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ( البقرة : 195 ) وقوله : تلقون إليهم بالمودة ( الممتحنة : 1 ) أي تبذلونها لهم وقوله : اقرأ باسم ربك الذي خلق ( العلق : 1 )

قال الفارسي : وهي زائدة كقوله : لا تقرآن بالسور وقوله : بأييكم المفتون ( القلم : 6 ) جعلت المفتون اسم مفعول لا مصدرا ، كالمعقول والمعسور والميسور ، وقوله : عينا يشرب بها عباد الله ( الإنسان : 6 ) ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ( الحج : 25 ) تنبت بالدهن ( المؤمنون : 20 ) وقوله : فامسحوا برءوسكم ( المائدة : 6 ) ونحوه .

والجمهور على أنها لا تجيء زائدة ، وأنه إنما يجوز الحكم بزيادتها إذا تأدى المعنى المقصود بوجودها وحالة عدمها على السواء ، وليس كذلك هذه الأمثلة ، فإن معنى وكفى بالله شهيدا ( النساء : 79 ) كما هي في : أحسن بزيد ! ومعنى امسحوا برؤوسكم اجعلوا المسح ملاصقا برؤوسكم ، وكذا بوجوهكم أشار إلى مباشرة العضو بالمسح ، وإنما لم يحسن في آية الغسل " فاغسلوا بوجوهكم " لدلالة الغسل على المباشرة ، وهذا كما تتعين المباشرة في قولك : أمسكت به وتحتملها في أمسكته .

وأما قوله : ولا تلقوا بأيديكم ( البقرة : 195 ) فحذف المفعول للاختصار . وأما تلقون إليهم بالمودة ( الممتحنة : 1 ) فمعناه تلقون إليهم النصيحة بالمودة ، وقال ابن النحاس : معناه تخبرونهم بما يخبر به الرجل أهل مودته .

وقال السهيلي : ضمن تلقون معنى ( ترمون ) من الرمي بالشيء ، يقال : ألقى زيد إلي بكذا ، أي رمى به ، وفي الآية إنما هو إلقاء بكتاب أو برسالة ، فعبر عنه بالمودة ؛ لأنه من أفعال أهل [ ص: 224 ] المودة فلهذا جيء بالباء .

وأما قوله : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( الإسراء : 14 ) فليست زائدة ، وإلا للحق الفعل قبلها علامة التأنيث ؛ لأنه للنفس ، وهو مما يغلب تأنيثه . وجوز في الفعل وجهان : ( أحدهما ) أن تكون " كان " مقدرة بعد كفى ، ويكون " بنفسك " صفة له قائمة مقامه . والثاني : أنه مضمر يفسره المنصوب بعده ، أعني " حسيبا " كقولك : نعم رجلا زيد .

وتجيء للتعدية ، وهي القائمة مقام الهمزة في إيصال الفعل اللازم إلى المفعول به ، نحو : ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ( البقرة : 20 ) أي أذهب كما قال : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ( الأحزاب : 33 ) ولهذا لا يجمع بينهما فهما متعاقبتان ، وأما قوله تعالى : أسرى بعبده ( الإسراء : 1 ) ، فقيل : أسرى وسرى بمعنى ، كسقى وأسقى ، والهمزة ليست للتعدية ، وإنما المعدى الباء في بعبده .

وزعم ابن عطية أن مفعول أسرى محذوف ، وأن التعدية بالهمزة ، أي أسرى الليلة بعبده .

ومذهب الجمهور أنها بمعنى الهمزة ، لا تقتضي مشاركة الفاعل للمفعول ، وذهب المبرد والسهيلي أنها تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول في الفعل بخلاف الهمزة . ورد بقوله تعالى : ذهب الله بنورهم ( البقرة : 17 ) ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ( البقرة : 20 ) ألا ترى أن الله لا يذهب مع سمعهم ، فالمعنى لأذهب سمعهم .

وقال الصفار : وهذا لا يلزم ؛ لأنه يحتمل أن يكون فاعل " ذهب " البرق ، ويحتمل أن [ ص: 225 ] يكون الله تعالى ويكون الذهاب على صفة تليق به سبحانه كما قال وجاء ربك ( الفجر : 22 ) .

قال : وإنما الذي يبطل مذهبه قول الشاعر :


ديار التي كانت ونحن على منى     تحل بنا لولا نجاء الركائب



أي تجعلنا حلالا لا محرمين ، وليست الديار داخلة معهم في ذلك .

واعلم أنه لكون الباء بمعنى الهمزة ، لا يجمع بينهما ، فإن قلت : كيف جاء تنبت بالدهن ( المؤمنون : 20 ) والهمزة في أنبت للنقل ؟ قلت : لهم في الانفصال عنه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون الباء زائدة .

والثاني : أنها باء الحال كأنه قال : تنبت ثمرها وفيه الدهن ، أي وفيهما الدهن ، والمعنى : تنبت الشجرة بالدهن ، أي ما هو موجود منه ، وتختلط به القوة بنبتها ، على موقع المنة ولطيف القدرة ، وهداية إلى استخراج صبغة الآكلين .

والثالث : أن نبت وأنبت بمعنى . وللاستعانة وهي الدالة على آلة الفعل ، نحو : كتبت بالقلم . ومنه في أشهر الوجهين : بسم الله الرحمن الرحيم ( الفاتحة : 1 ) .

وللتعليل بمنزلة اللام ، كقوله : إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ( البقرة : 54 ) فبظلم من الذين هادوا ( النساء : 160 ) فكلا أخذنا بذنبه ( العنكبوت : 40 ) .

وللمصاحبة بمنزلة مع ، وتسمى باء الحال ، كقوله تعالى : قد جاءكم الرسول بالحق ( النساء : 170 ) أي مع الحق أو محقا يانوح اهبط بسلام منا ( هود : 48 ) .

[ ص: 226 ] وللظرفية بمنزلة " في " ، وتكون مع المعرفة نحو : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل ( الصافات : 137 - 138 ) وبالأسحار هم يستغفرون ( الذاريات : 18 ) ومع النكرة نحو : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ( آل عمران : 123 ) نجيناهم بسحر ( القمر : 34 ) .

قال أبو الفتح في التنبيه : وتوهم بعضهم أنها لا تقع إلا مع المعرفة ، نحو : كنا بالبصرة وأقمنا بالمدينة .

وهو محجوج بقول الشماخ :


وهن وقوف ينتظرن قضاءه     بضاحي عداة أمره وهو ضامز


أي في ضاحي وهي نكرة .

وللمجاوزة كعن نحو : فاسأل به خبيرا ( الفرقان : 59 ) سأل سائل بعذاب واقع ( المعارج : 1 ) ويوم تشقق السماء بالغمام ( الفرقان : 25 ) أي عن الغمام بين أيديهم وبأيمانهم ( التحريم : 8 ) أي وعن أيمانهم .

وللاستعلاء كعلى : ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار ( آل عمران : 75 ) أي على قنطار كما قال : هل آمنكم عليه ( يوسف : 64 ) ونحو : وإذا مروا بهم يتغامزون [ ص: 227 ] ( المطففين : 30 ) ، أي عليهم كما قال : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين ( الصافات : 137 ) .

وللتبعيض كمن نحو : يشرب بها عباد الله ( الإنسان : 6 ) أي منها ، وخرج عليه : وامسحوا برءوسكم ( المائدة : 6 ) .

والصحيح أنها باء الاستعانة ، فإن " مسح " يتعدى إلى مفعول ، وهو المزال عنه ، وإلى آخر بحرف الجر وهو المزيل ، فيكون التقدير : فامسحوا أيديكم برءوسكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية