الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( أو المرسل إليه المنكر )

                                                                                                                            ش : قال [ ص: 262 ] في الوديعة من المدونة وإن دفعته إليه مالا ليدفعه إلى رجل فقال : دفعته له وأنكر ذلك الرجل فإن لم يأت الدافع ببينة ضمن ذلك قبض ذلك منه ببينة أو بغير بينة ولو شرط الرسول أن يدفع المال إلى من أمرته بغير بينة لم يضمن ، وإن لم تقم له بينة بالدفع إذا ثبت هذا الشرط قال أبو الحسن الصغير في شرحه الكبير مفهومه لو أقر أبرئ الدافع انتهى .

                                                                                                                            قال في المدونة بعد ذلك بيسير ومن بعث معه بمال ليدفعه إلى فلان صدقة أو صلة أو سلفا أو من ثمن مبيع أو ليبتاع لك بها سلعة فقال دفعته وكذبه الرجل لم يبرأ الرسول إلا ببينة قال أبو الحسن الصغير ومفهوم قوله ، فأكذبه أنه لو صدقه أبرئ وظاهره يعم جميع الصور ، وذكر فيها السلف وفيه من أمانة إلى ذمة أما إن كان قائم الذمة ، فلا إشكال أنه يبرأ وإن كان خرب الذمة ، فعلى ما تقدم ، وعلى الصلة أو ثمن السلعة ، فلا إشكال أنه يبرأ بتصديقه انتهى . وقوله على ما تقدم يشير إلى كلام ابن رشد وسيأتي إن شاء الله ملخصا وقال في المدونة : بعد هذا وإن بعت من رجل ثوبا وبعثت معه عبدك أو أجيرك ليقبض الثمن فقال قبضته وضاع مني فإن لم تقم للمشتري بينة بالدفع إلى رسولك ضمن بخلاف من دفعت إليه مالا ليدفعه إلى رجل ، فقال دفعته إليه بغير بينة ، وصدقه الرجل هذا لا يضمن .

                                                                                                                            قال أبو الحسن ظاهره قبض ذلك إلى أمانة أو اقتضى من حقه عياض اختلف في تأويلها فقال ابن لبابة وغيره : إن معنى المسألة أنه إذا صدقه المبعوث ، فهو مصدق والرسول بريء سواء كان القابض لها قبضها من حق أو وديعة ، وهو ظاهر الكتاب وعليه اختصر أكثرهم وهو بين في كتاب ابن حبيب وقال حمديس : إنما يجب على أصله فيما أقر به المبعوث إليه من حقوقه أو على وديعة هي قائمة في يده ، وأما التي أقر بقبضها ، وادعى تلفها أو جحد القبض ، فلا يبرأ الرسول إلا ببينة على الدفع وقاله جماعة من نظار الأندلس ولفظه في الكتاب محتمل أن يكون من حق أو وديعة انتهى ونقل ابن عرفة هذين التأويلين عن عياض أيضا والله أعلم وقال في المقدمات : من دفع الوديعة إلى غير اليد التي دفعتها إليه فعليه ما على ولي اليتيم من الإشهاد فإن لم يشهد فلا يصدق في الدفع إذا أنكر القابض ، ولا أحفظ في هذا الوجه نص خلاف إلا ما قاله ابن الماجشون فيمن بعث ببضاعة إلى رجل مع رجل أنه لا يلزمه الإشهاد في دفعها إليه وهو مصدق ، وإن أنكر القابض كانت دينا أو صلة

                                                                                                                            ويمكن أن يكون قول ابن القاسم مثله بالمعنى في مسألة اللؤلؤ الواقعة في كتاب الوكالات فإن أقر بالقبض ، وادعى التلف ، فلا يخلو إما أن يكون قبض إلى أمانة أو إلى ذمة ، فإن كان قبض إلى أمانة ، فاختلف في ذلك قول ابن القاسم فقال فيها مرة : يبرأ الدافع بتصديق القابض وتكون المصيبة من الآمر ، وهو قوله في الكتاب وقال مرة : لا يبرأ الدافع إلا بإقامة البينة على الدفع أو يأتي القابض بالمال وهو قوله في كتاب ابن المواز وأما إن قبض إلى ذمة مثل أن يقول له ادفع الوديعة التي لي عندك إلى فلان سلفا أو تسليفا في سلعة أو إلى صانع يعمل فيها عملا ، فإن كانت الذمة قائمة فإن الدافع يبرأ بتصديق القابض بلا خلاف وأما إن كانت الذمة خربة فاختلف في ذلك قيل إن الدافع يبرأ بتصديق القابض ، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم وقيل إنه لا يبرأ من تصديقه إياه لخراب ذمته ( فصل ) : وهذا التقسيم كله في دفع الأمانة وأما ما يثبت في الذمة فإن دفع ذلك إلى أمانة ، فإنه لا يبرأ بتصديق القابض إذا ادعى التلف ، ولا يبرأ إلا بإقامة البينة على معاينة الدفع أو يأتي قابض المال به هذا نص ما في المدونة ، ولا أعرف في هذا خلافا إلا أن يدخله الخلاف بالقياس على الأمانة ، وإن دفع إلى ذمة فإن كانت قائمة ، فإنه يبرأ بتصديق القابض باتفاق وإن كانت خربة ، فإنه لا يبرأ بتصديق القابض إذا ادعى التلف إلا أن يقيم بينة على الدفع هذا الذي يصح عندي على مذاهبهم ولا أعرف فيها نص خلاف [ ص: 263 ] إلا أن يدخلها الخلاف بالقياس على الأمانة ، فهي أربعة وجوه دافع من ذمة إلى ذمة ومن أمانة إلى أمانة ومن ذمة إلى أمانة ومن أمانة إلى ذمة انتهى مختصرا لكنه بلفظه والله أعلم .

                                                                                                                            وقول ابن رشد إذا دفع من ذمة إلى أمانة لا يبرأ بتصديق القابض إذا ادعى التلف يريد والله أعلم في غير الوكيل المفوض قال ابن الحاجب : أما لو لم يمت وأكذبه لم يصدق إلا ببينة ولو صدقه المرسل إليه في قبضها منه ابن عبد السلام يريد ، فلو لم يمت الرسول أو دفع الوديعة إلى من أمره بدفعها إليه ، وضاعت وأنكر ربها فإنه لا يصدق في دفعها إليه حتى يقيم البينة على معاينة الدفع ، فإن لم يقمها ضمن سواء صدقه المرسل إليه في قبضها منه أو لم يصدقه في ذلك انتهى فقول المصنف المنكر مفهومه أنه لو لم يكن منكرا لا يضمن وكأنه اعتمد ما تقدم عن المدونة وما نسبه ابن رشد لابن القاسم فيها وترك ما مشى عليه ابن الحاجب لقوة الأول ، ولا منافاة على هذا بين ما قال هنا وبين ما قاله في باب الوكالة ، ولو قال غير المفوض قبضت وتلف برئ ، ولم يبرأ الغريم إلا ببينة ; لأن ما قاله في الوكالة محمول على القسم الثالث في كلام ابن رشد ، وهو الدفع من ذمة إلى أمانة الذي صرح بنفي الخلاف فيه بدليل قول المصنف الغريم ، ولذا قال الشارح هناك يريد إذا قال الوكيل المخصوص قبضت ثمن ما بعت إلخ فتأمل ذلك والله أعلم .

                                                                                                                            ( تنبيه ) : في إطلاق المصنف على هذه المسألة دعوى الرد مسامحة وإنما فيها دعوى إيصال الأمانة .

                                                                                                                            ( تنبيه ) ثان قال في النكت اعلم أن الرسول إذا شرط عليه أن لا يشهد على من يدفع إليه ينفعه ، وإذا شرط عليه أن لا يمين عليه لم ينفعه ذلك ; لأن اليمين إنما ينظر إليها حين وجوب متعلقها ، فكأنه شرط سقوط أمر لم يجب بعد بخلاف شرطه ترك الإشهاد وذكره ابن حبيب فيما أراه انتهى . وقد ذكر ابن رشد من هذا في رسم أوصى من سماع عيسى من الرهون مسألة المرتهن يأخذ الرهن على أن يضعه على يدي عدل ويدعي أنه وضعه ، ويصدقه على ذلك العدل أنه لا ضمان عليه ، ويصدق على مذهب المدونة ، وقال ابن عرفة قلت انظر هذا مع القول بالوفاء بشرط دعوى التصديق في دعوى عدم القضاء انتهى . وسيقوله المصنف ( تنبيه ) : إطلاق المصنف هنا في الضمان مع عدم الإشهاد هو المشهور ومقابله أنه إذا كان العرف عدم الإشهاد صدق المودع كما تقدم في باب الوكالة ، وتقدم فيه أيضا أن تصديق رب المال لا يسقط الضمان مع عدم الإشهاد ، وكما هو ظاهر قراض المدونة ولفظ ابن الحاجب هنا إلا أن يدفع ذلك بحضرة رب المال ، فتأمله وراجعه والله أعلم .

                                                                                                                            ( فرع ) : قال في المدونة إثر المسألة الثالثة ، وهي قوله من بعثت معه بمال ما نصه وكذلك إن أمرته بصدقة على قوم معينين فإن صدقه بعضهم وكذبه بعضهم ضمن حصة من كذبه ، ولو أمرته بصدقة على غير معينين صدق مع يمينه ، وإن لم يأت ببينة انتهى .

                                                                                                                            ابن يونس يريد وإنما يحلف إذا كان متهما ونقله أبو الحسن والله أعلم .

                                                                                                                            ( فرع ) : قال في المدونة في كتاب الوديعة وإن بعثت بمال إلى رجل ببلد فقدمها الرسول ، ثم مات بها وزعم الرجل أن الرسول لم يدفع إليه شيئا فلا شيء لك في تركة الرسول ولك اليمين على من يجوز أمره من ورثته أنه لا يعلم لذلك سببا ، ولو مات الرسول قبل أن يصل إلى البلد ، فلم يوجد للمال أثر ، فإنه يضمن ، ويؤخذ من تركته انتهى زاد في مختصر الوقار ، فإن نكلوا غرموا ، وقال فيه فإن مات المبعوث بها إليه بعد وصول المبعوث بها معه إلى البلد وادعى دفعها إلى الرجل لم يقبل قوله إلا أن يأتي على دفعها ببينة ، وإن وصل المبعوث بها معه إلى البلد ، ولم يوصلها إلى المبعوث بها إليه ، ولم يذكر لها ذكرا حتى رجع إلى ربها ، وادعى تلفها ، فهو ضامن لها انتهى من كتاب البضاعة منه ونحوه في النوادر في كتاب الوكالات ونصه : قال ابن حبيب : قال مطرف : عن مالك ومن أبضع مع رجل بضاعة وأمره أن يدفعها إلى آخر ، وأشهد [ ص: 264 ] الآمر عليه أو لم يشهد والبضاعة دين على الآمر أو على وجه الصلة ، فعلى المأمور أن يشهد على الدافع ، وإلا ضمن إذا أنكر القابض أنه ما قبض منه شيئا أو كان ميتا أو ما أشبه ذلك من غايات الأمور انتهى

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية