الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          وإذا عرف معنى الخبر فهو ينقسم ثلاث قسم :

          القسمة الأولى : أن الخبر ينقسم إلى صادق وكاذب ؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون مطابقا للمخبر به [1] أو غير مطابق فإن كان الأول فهو الصادق ، وإن كان الثاني فهو الكاذب .

          وقال الجاحظ : الخبر ينقسم ثلاثة أقسام : صادق ، وكاذب ، وما ليس بصادق ، ولا كاذب . وقد احتج على ذلك بالنص والمعقول .

          أما النص فحكاية القرآن عن الكفار قولهم عن النبي عليه السلام ( أفترى على الله كذبا أم به جنة ) حصروا دعواه النبوة في الكذب والجنة ، وليس إخباره بالنبوة حالة جنونه كذبا لأنهم جعلوها في مقابلة الكذب ، ولا صدقا ، لأنهم لم يعتقدوا صدقه على كل تقدير . فإخباره حالة جنة ليس بصدق ولا كذب .

          وأما المعقول فمن وجهين : الأول : أنه ليس الصادق هو الخبر المطابق للمخبر .

          فإن من أخبر بأن زيدا في الدار ، على اعتقاد أنه ليس فيها ، وكان فيها ، فإنه لا يوصف بكونه صادقا ولا يستحق المدح على ذلك ، وإن كان خبره مطابقا للمخبر . ولا يوصف بكونه كاذبا لمطابقة خبره للمخبر . وكذلك ليس الكذب هو عدم مطابقة الخبر للمخبر لوجهين ؛ الأول : أنه كان يلزم منه الكذب في كلام الله ( تعالى ) بتخصيص عموم خبره وتقييد مطلقه لعدم المطابقة ، وهو محال .

          الثاني : أنه لو أخبر مخبر أن زيدا في الدار ، على اعتقاد كونه فيها ولم يكن فيها ، [ ص: 11 ] فإنه لا يوصف بكونه كاذبا ؛ ولا يستحق الذم على ذلك . ولا يوصف بكونه صادقا لعدم مطابقة الخبر للمخبر . وإنما الصادق ما طابق المخبر مع اعتقاد المخبر أنه كذلك . والكذب ما لم يطابق المخبر مع اعتقاده أنه كذلك .

          الثاني : أنه إذا جاز أن يفرض في الاعتقاد واسطة بين كونه علما أو جهلا ، لا يوصف بكونه علما ، ولا جهلا مركبا ، كاعتقاد العامي المقلد وجود الإله تعالى ، جاز أن يفرض بين الصادق والكاذب خبر ليس بصادق ولا كاذب .

          والجواب عن الآية أنهم إنما حصروا أمره بين الكذب والجنة ؛ لأن قصد الدلالة به على مدلوله شرط في كونه خبرا ، والمجنون ليس له قصد صحيح ، فصار كالنائم والساهي ، إذا صدرت منه صيغة الخبر ، فإنه لا يكون خبرا وحيث لم يعتقدوا صدقه لم يبق إلا أن يكون كاذبا ، أو لا يكون ما أتى به خبرا وإن كانت صورته صورة الخبر ، أما أن يكون خبرا وليس صادقا فيه ولا كاذبا ؛ فلا .

          وعن الوجه الأول من المعقول : أنا لا نسلم أن من أخبر عن كون زيد في الدار على اعتقاد أنه ليس فيها وهو فيها أن خبره لا يكون صادقا ، وإن كان لا يستحق المدح على الصدق .

          وكذلك لا نسلم أن من أخبر بأن زيدا في الدار ، على اعتقاد كونه فيها ، ولم يكن فيها أنه ليس كاذبا ، وإن كان لا يستحق الذم على كذبه ؛ لأن المدح والذم ليس على نفس الصدق والكذب لا غير ، بل على الصدق مع قصده والكذب مع قصده ؛ ولهذا فإن الأمة حاكمة بأن الكافر الذي علم منه اعتقاد بطلان رسالة محمد عليه السلام صادق بإخباره بنبوة محمد لما كان خبره مطابقا للمخبر ، وإن لم يكن معتقدا لذلك ولا قاصدا للصدق ، وحاكمة بكذبه في إخباره أنه ليس برسول ، وإن كان معتقدا لما أخبر به لما كان خبره غير مطابق للمخبر .

          وأما تخصيص عموم خبر القرآن وتقييد مطلقه ، فإنما لم يكن كذبا ، وإن لم يكن الخبر محمولا على ظاهره من العموم والإطلاق ؛ لأنه مصروف عن حقيقته إلى مجازه ، وصرف اللفظ عن أحد مدلوليه إلى الآخر لا يكون كذبا ، وسواء كان ذلك اللفظ من قبيل الألفاظ المشتركة أو [ ص: 12 ] المجازية .

          ولهذا فإن من أخبر بلفظ مشترك وأراد به بعض مدلولاته دون البعض . كما لو قال : ( رأيت عينا ) وأراد به العين الجارية دون الباصرة ، وبالعكس فإنه لا يعد كاذبا .

          وكذلك من أخبر بلفظ هو حقيقة في شيء ومجاز في شيء ، وأراد جهة المجاز دون الحقيقة ؛ فإنه لا يعد كاذبا ، وذلك كما لو قال : ( رأيت أسدا ) وأراد به المحمل المجازي دون الحقيقي ، وهو الإنسان .

          وعن الوجه الثاني أنه لا يلزم من انقسام الاعتقاد إلى علم وجهل مركب ، وحالة متوسطة ليست علما ولا جهلا مركبا ، انقسام الخبر إلى صدق وكذب ، وما ليس بصدق ولا كذب ، إذ هو قياس تمثيلي من غير جامع ، ولو كان ذلك كافيا ، لوجب أن يقال إنه أيضا يلزم من ذلك أن يكون بين النفي والإثبات واسطة ، وهو محال .

          وبالجملة ، فالنزاع في هذه المسألة لفظي حيث إن أحد الخصمين يطلق اسم الصدق والكذب على ما لا يطلقه الآخر إلا بشرط زائد .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية