الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 25 ] المسألة الرابعة

          اتفق القائلون بحصول العلم عن الخبر المتواتر على شروط ، واختلفوا في شروط .

          فأما المتفق عليه ، فمنها ما يرجع إلى المخبرين ، ومنها ما يرجع إلى المستمعين .

          فأما ما يرجع إلى المخبرين ، فأربعة شروط :

          الأول : أن يكونوا قد انتهوا في الكثرة إلى حد يمتنع معه تواطؤهم على الكذب .

          الثاني : أن يكونوا عالمين بما أخبروا به لا ظانين .

          الثالث : أن يكون علمهم مستندا إلى الحس ، لا إلى دليل العقل .

          الرابع : أن يستوي طرفا الخبر ووسطه في هذه الشروط ؛ لأن خبر أهل كل عصر مستقل بنفسه ، فكانت هذه الشروط معتبرة فيه .

          وأما ما يرجع إلى المستمعين ، فأن يكون المستمع متأهلا لقبول العلم بما أخبر به ، غير عالم به قبل ذلك وإلا كان فيه تحصيل الحاصل .

          غير أن من زعم أن حصول العلم بخبر التواتر نظري ؛ شرط تقدم العلم بهذه الأمور على حصول العلم بخبر التواتر .

          ومن زعم أنه ضروري لم يشترط سبق العلم بهذه الأمور ، لأن العلم عنده حاصل عند خبر التواتر بخلق الله تعالى ، فإن خلق العلم له علم أن الخبر مشتمل على هذه الشروط ، وإن لم يخلق له العلم علم اختلال هذه الشروط أو بعضها ، فضابط العلم بتكامل هذه الشروط حصول العلم بخبر التواتر عنده ، لا أن ضابط حصول العلم بخبر التواتر سابقة [1] حصول العلم بهذه الشروط .

          ثم اختلف هؤلاء في أقل عدد يحصل معه العلم .

          فقال بعضهم : هو خمسة ؛ لأن ما دون ذلك ، كالأربعة بينة شرعية يجوز للقاضي عرضها على المزكين بالإجماع لتحصيل غلبة الظن ، ولو كان العلم حاصلا بقول الأربعة ، لما كان كذلك .

          وقد قطع القاضي أبو بكر بأن الأربعة عدد ناقص ، وتشكك في الخمسة .

          [ ص: 26 ] ومنهم من قال : أقل ذلك اثنا عشر ، بعدد النقباء من بني إسرائيل ، على ما قال تعالى : ( وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ) وإنما خصهم بذلك العدد لحصول العلم بخبرهم .

          ومنهم من قال : أقله عشرون تمسكا بقوله تعالى : ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بما يخبرون به .

          ومنهم من قال : أقل ذلك أربعون أخذا من عدد أهل الجمعة .

          ومنهم من قال : أقلهم سبعون ، تمسكا بقوله تعالى : ( واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا ) وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بما يخبرون به .

          ومنهم من قال : أقله ثلاثمائة وثلاثة عشر ، نظرا إلى عدد أهل بدر ، إنما خصوا بذلك ليعلم ما يخبرون به للمشركين .

          ومنهم من قال : أقل عدد يحصل به العلم معلوم لله تعالى ، غير معلوم لنا ، وهذا هو المختار .

          وذلك لأنا لا نجد من أنفسنا معرفة العدد الذي حصل علمنا بوجود مكة ، وبغداد وغير ذلك من المتواترات عنده .

          ولو كلفنا أنفسنا معرفة ذلك عند توارد المخبرين بأمر من الأمور بترقب الحالة التي يكمل علمنا فيها بعد تزايد ظننا بخبر واحد بعد واحد لم نجد إليه سبيلا عادة ، كما لم نجد من أنفسنا العلم بالحالة التي يحصل فيها كمال عقولنا بعد نقصها ، بالتدريج الخفي ، لقصور القوة البشرية عن الوقوف على ذلك ، بل يحصل لنا العلم بخبر التواتر ، وإن كنا لا نقف على أقل عدد أفاده كما نعلم حصول الشبع بأكل الخبز ، والري بشرب الماء ، وإن كنا لا نقف على المقدار الذي حصل به الشبع والري .

          وما قيل من الأقاويل في ضبط عدد التواتر ، فهي مع اختلافها وتعارضها وعدم مناسبتها وملائمتها للمطلوب مضطربة ، فإنه ما من عدد يفرض حصول العلم به لقوم ، إلا وقد يمكن فرض خبرهم بعينه غير مفيد للعلم ، بالنظر إلى آخرين ، بل ولو أخبروا بأعيانهم بواقعة أخرى لم يحصل بها العلم لمن حصل له العلم بخبرهم الأول ، ولو كان ذلك العدد هو الضابط لحصول العلم لما اختلف ، وإنما وقع الاختلاف بسبب الاختلاف في القرائن المقترنة بالخبر ، وقوة سماع المستمع وفهمه ، وإدراكه للقرائن .

          [ ص: 27 ] وبالجملة فضابط التواتر ما حصل العلم عنده من أقوال المخبرين ، لا أن العلم مضبوط بعدد مخصوص ، وعلى هذا فما من عدد يفرض كان أربعة أو ما زاد إلا ويمكن أن يحصل به العلم ، ويمكن أن لا يحصل ، ويختلف ذلك باختلاف القرائن ، وما ذكر في كل صورة من أن تعيين ذلك العدد فيها إنما كان لحصول العلم بخبرهم ، تحكم لا دليل عليه ، بل أمكن أن يكون لأغراض أخر غير ذلك ، أو أن ذلك واقع بحكم الاتفاق .

          وعلى قولنا بأن ضابط التواتر حصول العلم عنده يمتنع الاستدلال بالتواتر على من لم يحصل له العلم منه ، وإنما المرجع فيه إلى الوجدان ، هذا ما يرجع إلى الشرائط المعتبرة المتفق عليها .

          وأما الشروط المختلف فيها فستة :

          الأول : ذهب قوم إلى أن شرط عدد التواتر أن لا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد ، ومذهب الباقين خلافه ، وهو الحق .

          وذلك لأنه قد يحصل العلم بخبر أهل بلد من البلاد ، بل بخبر الحجيج أو أهل الجامع بواقعة وقعت ، وحادثة حدثت ، مع أنهم محصورون .

          الثاني : ذهب قوم إلى اشتراط اختلاف أنساب المخبرين وأوطانهم وأديانهم ، وهو فاسد ، لأنا لو قدرنا أهل بلد اتفقت أديانهم وأنسابهم ، وأخبروا بقضية شاهدوها ، لم يمتنع حصول العلم بخبرهم .

          الثالث : ذهب بعضهم إلى أن شرط المخبرين أن يكونوا مسلمين عدولا ؛ لأن الكفر عرضة للكذب والتحريف ، والإسلام والعدالة ضابط الصدق والتحقيق في القول ؛ ولهذه العلة اختص المسلمون بدلالة إجماعهم على القطع ، ولأنه لو وقع العلم بتواتر خبر الكفار لوقع العلم بما أخبر به النصارى مع كثرة عددهم عن قتل المسيح وصلبه ، وما نقلوه عنه من كلمة التثليث .

          وهو باطل ، فإن نجد من أنفسنا العلم بأخبار العدد الكثير ، وإن كانوا كفارا كما لو أخبر أهل قسطنطينية بقتل ملكهم .

          وليس ذلك إلا لأن الكثرة مانعة من التواطؤ على الكذب ، وإن لم يكن ذلك ممتنعا فيما كان دون تلك الكثرة .

          [ ص: 28 ] وأما الإجماع فإنما اختص علماء الإسلام بالاحتجاج به للأدلة السمعية ، دون الأدلة العقلية ، كما سبق بخلاف التواتر .

          وأما أنه لم يحصل لنا العلم بما أخبر به النصارى من قتل المسيح وصلبه وكلمة التثليث ، فيجب أن يكون ذلك محالا على عدم [2] شرط من شروط التواتر ، وهو إما اختلال استواء طرفي الخبر ووسطه فيما ذكرناه من الشروط قبل ، أو لأنهم ما سمعوا كلمة التثليث صريحا ، بل سمعوا كلمة موهمة لذلك [3] فنقلوا التثليث ، ويجب اعتقاد ذلك نفيا للكفر عن المسيح ، على ما قال تعالى : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) أو لأن المسيح شبه لهم ، فنقلوا قتله وصلبه ، ولا بعد في ذلك ، وإن كان الغلط فيه غير معتاد إذا وقع في زمان خرق العوائد ، وهو زمان النبوة ، وإن كان بعيدا في غير زمانه . ويجب اعتقاد ذلك عملا بقوله تعالى : ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) .

          فإن قيل : فخرق العوائد جائز في غير زمان النبوة بكرامات الأولياء ، فليجز في كل ما أخبر به أهل ذلك العصر عن المحسات ووقوع الغلط فيه .

          قلنا : إن حصل لنا العلم بخبرهم ، علمنا استحالة الغلط عليهم ، وإن لم يحصل لنا العلم به ، علمنا أنه قد اختل شرط من شرائط التواتر ، وإن لم يكن ذلك الشرط معينا عندنا [4] .

          الرابع : ذهب قوم إلى أن شرطه أن لا يكونوا محمولين على أخبارهم بالسيف ، وهو باطل ، فإنهم إن حملوا على الصدق لم يمتنع حصول العلم بقولهم ، كما لو لم يحملوا عليه .

          ولهذا فإنه لو حمل الملك أهل مدينة عظيمة على الإخبار عن أمر محس ، وجدنا أنفسنا عالمة بخبرهم حسب علمنا بخبرهم من غير حمل ، وإن حملوا على الكذب ، فيمتنع حصول العلم بخبرهم ، لفوات شرط ، وهو إخبارهم عن معلوم محس .

          [ ص: 29 ] الخامس : شرطت الشيعة وابن الراوندي [5] وجود المعصوم في خبر التواتر ، حتى لا يتفقوا على الكذب ، و هو باطل أيضا ، لما بيناه من أنه لو اتفق أهل بلد من بلاد الكفار على الإخبار عن قتل ملكهم أو أخذ مدينة ، فإن العلم يحصل بخبرهم ، مع كونهم كفارا فضلا عن كون الإمام المعصوم ليس فيهم .

          ثم لو كان كذلك ، فالعلم يكون حاصلا بقول الإمام المعصوم بالنسبة إلى من سمعه لا بخبر التواتر .

          السادس : شرطت اليهود في خبر التواتر أن يكون مشتملا على أخبار أهل الذلة والمسكنة ؛ لأنه إذا لم يكن فيهم مثل هؤلاء ، فلا يؤمن تواطؤهم على الكذب لغرض من الأغراض . بخلاف ما إذا كانوا أهل ذلة ومسكنة ، فإن خوف مؤاخذتهم بالكذب يمنعهم من الكذب .

          ولو صح لهم هذا الشرط ، لثبت غرضهم من إبطال العلم بخبر التواتر بمعجزات عيسى ، ونبينا عليه السلام ، حيث إنهم لم يدخلوا في الأخبار بها ، وهم أهل الذلة والمسكنة . لكنه باطل بما نجده من أنفسنا من العلم بأخبار الأكابر والشرفاء العظماء إذا أخبروا بأمر محس ، وكانوا خلقا كثيرا . بل ربما كان حصول العلم من خبرهم أسرع من حصول العلم بخبر أهل المسكنة والذلة لترفع هؤلاء عن رذيلة الكذب لشرفهم وقلة مبالاة هؤلاء به لخستهم .

          وبالجملة لا يمتنع أن يكون شيء من هذه الشروط إذا تحقق كان حصول العلم بخبر التواتر معه أسرع من غيره .

          أما أن يكون ذلك شرطا ينتفي العلم بخبر التواتر عند انتفائه ؛ فلا .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية