الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المسألة الثانية عشرة

          الأمران المتعاقبان إما أن لا يكون الثاني معطوفا على الأول أو يكون معطوفا [1] ، فإن كان الأول فإما أن يختلف المأمور به أو يتماثل ، فإن اختلف فلا خلاف في اقتضاء المأمورين على اختلاف المذاهب في الوجوب والندب والوقف ، وسواء أمكن الجمع بينهما كالصلاة مع الصوم أم لا يمكن الجمع كالصلاة في مكانين أو الصلاة مع أداء الزكاة ، وإن تماثل فإما أن يكون المأمور به قابلا للتكرار أو لا يكون قابلا له ، فإن لم يكن قابلا له كقوله : " صم يوم الجمعة ، صم يوم الجمعة " فإنه للتأكيد المحض ، وإن كان قابلا للتكرار فإن كانت العادة مما تمنع من تكرره كقول السيد لعبده : " اسقني ماء اسقني ماء " أو كان الثاني منهما [ ص: 185 ] معرفا كقوله : " أعط زيدا درهما أعط زيدا الدرهم " فلا خلاف أيضا في كون الثاني مؤكدا للأول .

          وإنما الخلاف فيما لم تكن العادة مانعة من التكرار والثاني غير معرف كقوله : " صل ركعتين " " صل ركعتين " .

          فقال القاضي عبد الجبار : إن الثاني يفيد غير ما أفاده الأول ، ويلزم الإتيان بأربع ركعات مصيرا منه إلى أن الأمر الثاني لو انفرد أفاد اقتضاء الركعتين ، فكذلك إذا تقدمه أمر آخر لأن الاقتضاء لا يختلف .

          وخالفه أبو الحسين البصري بالذهاب إلى الوقف والتردد بين حمل الأمر الثاني على الوجوب أو التوكيد للأول ، والأظهر أنه إذا لم تكن العادة مانعة من التكرار ؛ ولا الثاني معرف أن مقتضى الثاني غير مقتضى الأول .

          وسواء قلنا إن مقتضى الأمر الوجوب أم الندب أم هو موقوف بين الوجوب والندب كما سبق ، لأنه لو كان مقتضيا عين ما اقتضاه الأول كانت فائدته التأكيد ، ولو كان مقتضيا غير ما اقتضاه الأول لكانت فائدته التأسيس ، والتأسيس أصل ، والتأكيد فرع ، وحمل اللفظ على الفائدة الأصلية أولى .

          فإن قيل إلا أنه يلزم منه تكثير مخالفة النفي الأصل ، ودليل براءة الذمة من القدر الزائد ، وليس أحد الأمرين أولى من الآخر ، فهو معارض بما يلزم من التأكيد من مخالفة ظاهر الأمر ، فإنه إما أن يكون ظاهرا في الوجوب أو الندب ، أو هو متردد بينهما على وجه لا خروج له عنهما على اختلاف المذاهب ، وحمله على التأكيد خلاف ما هو الظاهر من الأمر .

          وإذا تعارض الترجيحان سلم لنا ما ذكرناه أولا .

          كيف وإنه يحتمل أن يكون للوجوب في نفس الأمر ، وفي تركه محذور فوات المقصود من الواجب وتحصيل مقصود التأكيد ، ولا يخفى أن تفويت مقصود التأكيد وتحصيل مقصود الواجب أولى .

          وأما إن كان الأمر الثاني معطوفا على الأول ، فإن كان المأمور به مختلفا فلا نزاع أيضا في اقتضائهما للمأمورين أمكن الجمع بينهما أو لم يمكن .

          وإن تماثلا فالمأمور به إن لم يقبل التكرار فالأمر الثاني للتأكيد من غير خلاف ، كقوله : " صم يوم الجمعة وصم يوم الجمعة " ، وإن كان قابلا للتكرار فإن لم تكن العادة مانعة [ ص: 186 ] من التكرار ولا الثاني معرف فالحكم على ما تقدم فيما إذا لم يكن حرف عطف ، ويزيد ترجيح آخر وهو موافقة الظاهر من حروف العطف ، وذلك كقوله : " صل ركعتين وصل ركعتين " .

          وأما إن كانت العادة تمنع من التكرار أو كان الثاني معرفا كقوله : " اسقني ماء واسقني ماء " وكقوله : " صل ركعتين وصل ركعتين " فقد تعارض الظاهر من حروف العطف مع اللام المعرف ، أو مع منع العادة من التكرار ، ويبقى الأمر على ما ذكرنا فيما إذا لم يكن حرف عطف ، ولا ثم تعريف ولا عادة مانعة من التكرار . وقد عرف ما فيه .

          وأما إن اجتمع التعريف والعادة المانعة من التكرار في معارضة حرف العطف كقوله : " اسقني ماء واسقني الماء " فالظاهر الوقف لأن حرف العطف مع ما ذكرناه من الترجيح السابق الموجب لحمل الأمر الثاني على التأسيس واقع في مقابلة العادة المانعة من التكرار ولام التعريف ، ولا يبعد ترجيح أحد الأمرين بما يقترن به من ترجيحات أخر .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية