الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          وأما ما قيل من الحجج النقلية الواهية ، فمنها قوله تعالى : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) ووجه الاحتجاج بها أن الله تعالى أوجب الإنذار على كل طائفة من فرقة خرجت للتفقه في الدين عند رجوعهم إلى قومهم بقوله تعالى : ( ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ) [1] أمر بالإنذار ، والإنذار هو الإخبار [2] والأمر للوجوب .

          وإنما أمر بالإنذار طلبا للحذر بدليل قوله تعالى : ( لعلهم يحذرون ) و ( لعل ) ظاهرة في الترجي [3] وهو مستحيل في حق الله تعالى ، فتعين حمل ذلك على ما هو ملازم للترجي ، وهو الطلب ، فكان الأمر بالإنذار طلبا للتحذير ، فكان أمرا بالتحذير فكان الحذر واجبا .

          وإذا ثبت أن إخبار كل طائفة موجب للحذر ، فالمراد من لفظ " الطائفة " إنما هو العدد الذي لا ينتهي إلى حد التواتر . وبيانه من ثلاثة أوجه :

          الأول : أن لفظ الطائفة قد يطلق على عدد لا ينتهي إلى حد التواتر ، كالاثنين والثلاثة وعلى العدد المنتهي إلى حد التواتر ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، ويجب اعتقاد اتحاد المسمى ؛ نفيا للتجوز والاشتراك عن اللفظ .

          والقدر المشترك لا يخرج عن العدد القليل وما لازمه ، فكان هو المسمى .

          [ ص: 57 ] الثاني : أن الثلاثة فرقة ، فالطائفة الخارجة منها إما واحد أو اثنان .

          الثالث : أنه لا يخلو إما أن يكون المراد من لفظ " الطائفة " التي وجب عليها الخروج للتفقه والإنذار العدد الذي ينتهي إلى حد التواتر ، أو ما دونه لا جائز أن يقال بالأول ، وإلا لوجب على كل طائفة وأهل بلدة ، إذا كان ما دونهم لا ينتهون إلى حد التواتر ، أن يخرجوا بأجمعهم للتفقه والإنذار ، وذلك لا قائل به في عصر النبي ، ولا في عصر من بعده فلم يبق غير الثاني .

          وإذا ثبت أن إخبار العدد الذي لا ينتهي إلى حد التواتر حجة موجبة في هذه الصورة ، لزم أن يكون حجة في غيرها ؛ ضرورة أن لا قائل بالفرق وذلك هو المطلوب ، ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه أوجب الإنذار على كل طائفة كما ذكرتموه .

          وصيغة قوله : ( لينذروا ) لا نسلم أنها للأمر [4] .

          وإن كانت للأمر فلا نسلم للوجوب على ما يأتي [5] .

          سلمنا أنها للوجوب ، ولكن لا نسلم أن الإنذار هو الإخبار ، بل أمكن أن يكون المراد به التخويف من فعل شيء أو تركه ، بناء على العلم بما فيه من المصلحة أو المفسدة . والتخويف خارج عن الإخبار [6] .

          [ ص: 58 ] سلمنا أن المراد به الإخبار ، ولكن أمكن أن يكون ذلك بطريق الفتوى في الفروع والأصول [7] ونحن نقول به .

          سلمنا أن المراد به الإخبار عن الرسول بما سمع عنه ومنه ، ولكن لا نسلم أنه يلزم من إيجاب الإخبار بذلك إيجاب الحذر على من أخبر [8] .

          قولكم يجب حمل قوله تعالى : ( لعل ) على طلب الحذر لكونه ملازما للترجي .

          قلنا : الطلب الملازم للترجي الطلب الذي هو بمعنى ميل النفس أو بمعنى الأمر ، الأول مسلم ولكنه مستحيل في حق الله تعالى .

          والثاني ممنوع ، وإذا لم يكن الحذر مأمورا به لا يكون واجبا [9] .

          ومع تطرق هذه الاحتمالات فالاستدلال بالآية على كون خبر الواحد حجة في خارج عن باب الظنون فيما هو من جملة الأصول ، والخصم مانع لصحته [10] .

          ومنها قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) ووجه الاحتجاج بهذه الآية من وجهين ؛ الأول : أنه علق وجوب التثبت على خبر الفاسق ، فدل على أن الفاسق بخلافه ، وذلك إما أن يكون بالجزم برده أو بقبوله ، لا جائز أن يقال الأول ، وإلا كان خبر العدل أنزل درجة من خبر الفاسق ، وهو محال فلم يبق غير الثاني ، وهو المطلوب .

          الثاني : أن سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط ساعيا إلى قوم ، فعاد وأخبر [ ص: 59 ] النبي صلى الله عليه وسلم أن الذين بعثه إليهم قد ارتدوا ، وأرادوا قتله فأجمع النبي صلى الله عليه وسلم على غزوهم وقتلهم .

          وذلك حكم شرعي : وكان النبي قد أراد العمل فيه بخبر الواحد ، ولو لم يكن جائزا لما أراده ولأنكره الله تعالى عليه .

          وهذه الحجة أيضا ضعيفة ؛ أما الوجه الأول : فلأن الاستدلال بهذه الآية غير خارج عن مفهوم المخالفة ، وسنبين أنه ليس بحجة ، [11] ، وإن كان حجة ، لكنه حجة ظنية ، فلا يصح الاستدلال به في باب الأصول [12] .

          وأما الوجه الثاني فمن وجهين : الأول لا نسلم أن النبي أجمع على قتلهم وقتالهم بخبر الوليد بن عقبة ، فإنه قد روي أنه بعث خالد بن الوليد وأمره بالتثبت في أمرهم ، فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه ، فعادوا إليه وأخبروه بأنهم على الإسلام ، وأنهم سمعوا أذانهم وصلاتهم فلما أصبحوا ، أتاهم خالد بن الوليد ورأى ما يعجبه منهم ، فرجع إلى النبي وأخبره بذلك .

          الثاني : أن ما ذكروه من سبب النزول من أخبار الآحاد ، فلا يكون حجة في الأصول [13] .

          ومنها قوله تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) ووجه الحجة من ذلك أن المخبر بخبر لنا عن الرسول شاهد على الناس ، ولا يجوز أن يجعله الله شاهدا على الناس ، وهو غير مقبول القول .

          ولقائل أن يقول : الآية خطاب مع الأمة لا مع الآحاد ، فلا تكون حجة في محل النزاع .

          ومنها قوله تعالى : ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ) الآية .

          ووجه الحجة بها أن الله تعالى توعد على كتمان الهدى ، وذلك يدل على إيجاب إظهار الهدى ، وما يسمعه الواحد من النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الهدى ، فيجب عليه إظهاره ، فلو لم يجب علينا قبوله ، لكان الإظهار كعدمه ، فلا يجب .

          [ ص: 60 ] ولقائل أن يقول : يحتمل أن يكون المراد من قوله : ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ) العدد الذي تقوم به الحجة ، ويحتمل أنه أراد به ما دون ذلك [14] .

          وبتقدير إرادة ما دون ذلك ، فيحتمل أن يكون المراد بما أنزل من البينات والهدى الكتاب العزيز ، وهو الظاهر المتبادر إلى الفهم منه عند الإطلاق [15] وبتقدير أن يكون المراد به كل ما أنزل على الرسول حتى السنة ، فغاية التهديد على كتمان ذلك الدلالة على وجوب إظهار ما سمع من الرسول على من سمعه .

          وليس في ذلك ما يدل على وجوب قبوله على من بلغه على لسان الآحاد ، ولهذا فإنه بمقتضى الآية يجب على الفاسق إظهار ما سمعه ، وإن كان لا يجب على سامعه قبوله [16] .

          وذلك لأنه من المحتمل أن يكون وجوب الإظهار على كل واحد واحد ، حتى يتألف من خبر المجموع التواتر المفيد للعلم [17] .

          ومع ذلك كله فدلالة الآية على وجوب قبول خبر الواحد ظنية ، فلا تكون حجة في الأصول لما سبق [18] .

          ومنها قوله تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) أمر بسؤال أهل الذكر ؛ والأمر للوجوب ، ولم يفرق بين المجتهد وغيره .

          وسؤال المجتهد لغيره [ ص: 61 ] منحصر في طلب الإخبار بما سمعه دون الفتوى ، ولو لم يكن القبول واجبا ، لما كان السؤال واجبا .

          ولقائل أن يقول : لا نسلم أن قوله : " فاسألوا " صيغة أمر [19] ، وإن كانت أمرا ، فلا نسلم أنها للوجوب ، كما يأتي .

          وإن كانت للوجوب ، فيحتمل أن يكون المراد من أهل الذكر أهل العلم ، وأن يكون المراد من المسئول عنه الفتوى [20] .

          وبتقدير أن يكون المراد السؤال عن الخبر ، فيحتمل أن يكون المراد من السؤال العلم بالمخبر عنه وهو الظاهر [21] وذلك لأنه أوجب السؤال عند عدم العلم .

          فلو لم يكن المطلوب حصول العلم بالسؤال ، لكان السؤال واجبا بعد حصول خبر الواحد [22] ، لعدم حصول العلم بخبره ، فإنه لا يفيد غير الظن .

          وذلك يدل على أن العمل بخبر غير واجب ؛ لأنه لا قائل بوجوب العمل بخبره مع وجوب السؤال عن غيره .

          وإذا كان المطلوب إنما هو حصول العلم من السؤال ، فذلك إنما يتم بخبر التواتر ، لا بما دونه .

          وإن سلمنا أن السؤال واجب على الإطلاق ، فلا يلزم أن يكون العمل بخبر الواحد واجبا ، بدليل ما ذكرناه في الحجة المتقدمة [23] .

          [ ص: 62 ] وبتقدير دلالة ذلك على وجوب القبول ، لكنها دلالة ظنية ، فلا يحتج بها في الأصول .

          ومنها قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ) أمر بالقيام بالقسط والشهادة لله ، والأمر للوجوب .

          ومن أخبر عن الرسول بما سمعه منه ، فقد قام بالقسط وشهد لله ، فكان ذلك واجبا عليه ، وإنما يكون ذلك واجبا إن لو كان القبول واجبا ، وإلا كان وجود الشهادة كعدمها ، وهو ممتنع .

          ولقائل أن يقول : لا أسلم دلالة الآية على وجوب القيام بالقسط والشهادة لله على ما يأتي ، وإن سلمنا دلالتها على وجوب ذلك ، غير أنا نقول بموجب الآية ، فإن الشهادة لله والقيام بالقسط إنما يكون فيما يجوز العمل به .

          وأما ما لا يجوز العمل به فلا يكون قياما بالقسط ولا شهادة لله ، وعند ذلك فيتوقف العمل بالآية في وجوب قبول خبر الواحد .

          على أنه قام بالقسط وأنه شاهد لله ، وقيامه بالقسط وشهادته لله متوقف على قبول خبره وجواز العمل به ، وهو دور ممتنع .

          وإن سلمنا أنه شهد لله وقام بالقسط ، ولكن لا نسلم أنه واجب القبول ؛ ودليله ما سبق ، وبتقدير دلالة الآية على وجوب القبول ، ولكن لجهة الظن فلا يصح [24] .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية