الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 83 ] المسألة الثانية

          الفاسق المتأول الذي لا يعلم فسق نفسه لا يخلو ، إما أن يكون فسقه مظنونا ، أو مقطوعا به ، فإن كان مظنونا ، كفسق الحنفي إذا شرب النبيذ ، فالأظهر قبول روايته وشهادته ، وقد قال الشافعي رضي الله عنه : إذا شرب الحنفي النبيذ أحده وأقبل شهادته .

          وإن كان فسقه مقطوعا به ، فإما أن يكون ممن يرى الكذب ويتدين به ، أو لا يكون كذلك ، فإن كان الأول فلا نعرف خلافا في امتناع قبول شهادته كالخطابية من الرافضة ؛ لأنهم يرون شهادة الزور لموافقيهم في المذهب .

          وإن كان الثاني كفسق الخوارج الذين استباحوا الدار ، وقتلوا الأطفال والنسوان فهو موضع الخلاف .

          فمذهب الشافعي وأتباعه وأكثر الفقهاء أن روايته وشهادته مقبولة ، وهو اختيار الغزالي وأبي الحسين البصري وكثير من الأصوليين .

          وذهب القاضي أبو بكر والجبائي وأبو هاشم وجماعة من الأصوليين إلى امتناع قبول شهادته وروايته ، وهو المختار .

          وقد احتج النافون بحجة ضعيفة ، وذلك أنهم قالوا ، أجمعنا على أن الفاسق المفروض ، لو كان عالما بفسقه لم يقبل خبره ، فإذا كان جاهلا بفسقه معتقدا أنه ليس بفاسق ، فقد انضم إلى فسقه فسق آخر وخطيئة أخرى ، وهو اعتقاده في الفسق أنه ليس بفسق ، فكان أولى أن لا يقبل خبره .

          ولقائل أن يقول : إذا لم يعتقد أنه فاسق ، وكان متحرجا محترزا في دينه عن الكذب وارتكاب المعصية ، فكان [1] إخباره مغلبا على الظن صدقه ، بخلاف ما إذا علم أن ما يأتي به فسقا ، فذلك يدل على قلة مبالاته بالمعصية ، وعدم تحرزه عن الكذب فافترقا .

          والمعتمد في ذلك النص والمعقول :

          أما النص فقوله تعالى : ( إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ) أمر برد نبأ الفاسق .

          [ ص: 84 ] والخلاف إنما هو فيمن قطع بفسقه ، فكان مندرجا تحت عموم الآية ، غير أنا خالفناه فيمن كان فسقه مظنونا ، وما نحن فيه مقطوع بفسقه ، فلا يكون في معنى صورة المخالفة .

          وأيضا قوله تعالى : ( إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) غير أنا خالفناه في خبر من ظهرت عدالته ، وفيمن كان فسقه مظنونا ، فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل .

          وأما المعقول ، فهو أن القول بقبول خبره يستدعي دليلا ، والأصل عدمه .

          فإن قيل : بيان وجود الدليل النص والإجماع والقياس :

          أما النص فقوله صلى الله عليه وسلم : " إنما أحكم بالظاهر ، والله يتولى السرائر " والفاسق فيما نحن فيه محترز عن الكذب ، متدين بتحريمه ، فكان صدقه في خبره ظاهرا ، فكان مندرجا تحت عموم الخبر .

          وأما الإجماع فهو أن عليا عليه السلام والصحابة قبلوا أقوال قتلة عثمان والخوارج مع فسقهم ، ولم ينكر ذلك منكر فكان ذلك إجماعا .

          وأما القياس فهو أن الظن بصدقه موجود ، فكان واجب القبول مبالغة في تحصيل مقصوده قياسا على العدل والمظنون فسقه .

          والجواب عن الخبر ما سبق في المسألة التي قبلها ، وعن الإجماع : أنا لا نسلم أن كل من قبل شهادة الخوارج وقتلة عثمان كانوا يعتقدون فسقهم ، فإن الخوارج من جملة المسلمين والصحابة ، ولم يكونوا معتقدين فسق أنفسهم .

          ومع عدم اعتقاد الجميع لفسقهم ، وإن قبلوا شهادتهم فلا يتحقق انعقاد الإجماع على قبول خبر الفاسق .

          وعن القياس بالفرق في الأصول المستشهد بها .

          أما في العدل فلظهور عدالته واستحقاقه لمنصب الشهادة والرواية ، وذلك يناسب قبوله إعظاما له وإجلالا [2] بخلاف الفاسق .

          وأما في مظنون الفسق فلأن حاله في استحقاق منصب الشهادة والرواية أقرب من حال من كان فسقه مقطوعا به فلا يلزم من القبول ثم القبول هاهنا .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية